لذة الكوارث .. هل أيقظت أزمة كورونا نوعًا من الإثارة السرِّيَّة عند البعض؟
لذة الخوف هي الإدمان أو اللهفة إلى الشعور بالأمن والسكينة، وهو ما شعر به البعض بسبب أزمة الكورونا التي ضربت العالم كله
add تابِعني remove_red_eye 1,060
بدءًا من أسطورة الطوفان في العهد القديم، ثم أوصاف الجحيم في كوميديا دانتي ومرورًا بتحذيرات كارل ياسبرس حول القوة المدمرة للقنبلة النووية، فضلًا عن الصورة المستقبلية الحالكة التي رسمها كارل أميريس لعالم دون غابات.
لطالما اجتذبت الكوارث ألباب الناس بطريقة غريبة، ليس فقط منذ أزمة كورونا، لكن تلك الجاذبية تزداد بشكلٍ خاصٍّ في أوقات العزلة الاجتماعية، فتجد أعدادًا ليست بالقليلة تقف مشدوهة أمام الإحصاءات الجديدة وتتابع حالات الإصابة والمستشفيات المكتظة بالبشر والمشارح، يشاهدون أفلامًا تدور أحداثها حول نهاية العالم ويقرؤون روايات ديستوبيا، وهنا نقول: هل هناك شيء يعادل جاذبية الهلاك؟
قد يبدو لك في بداية الأمر أن مصطلح “لذة الكوارث” مفهوم يتسم بالتناقض، ولكنه بلا ريب يؤدي وظيفة مهمة؛ تخيل أن أسوأ السيناريوهات يخلق نوعًا من الخوف، وفي نفس الوقت يفرز الجسد هرمون الإندورفين الذي يطلق عليه “هرمون السعادة”، وذلك الهرمون من شأنه حماية الجسم وتخفيف الآلام والوصول بالمرء إلى الشعور بالنشوة.
هناك وجهة نظر نفسية متطورة ترى أن المزيج الذي يخلط الخوف باللَّذة هو انفعال منطقي، إنه يحفِّز على الاستمرار والمواصلة في الأوقات الميئوس منها وبالتالي يضمن بقاء الجسد على قيد الحياة، ونجد أيضا أن مفهوم “لذة الكارثة” لا يجري العمل به كثيرًا في علم النفس، ورغم ذلك هناك مفهوم آخر مرتبط به ظل لفترة طويلة ظاهرة مثيرة للإعجاب؛ ألا وهو “لذة الخوف”.
هل لدينا ثقافة التعامل مع الأزمات
الكورونا تجعل من العالم قرية صغيرة
كيف تغير العالم في زمن الكورونا؟
“الإثارة” أو لذة الخوف
وفقا لحديث “هانز يورجن فيرت” المحلِّل النفسي في مدينة غيسن الألمانية، فإن لذّة الخوف مفهومٌ يتمحور حول تجاوز الخوف والرغبة في الخروج من الخطر بأمان. ويقول فيرت: “إنْ جَازَ التعبير يمكننا وصفه بأن انتصار نرجسي”، ويعني بقوله أن المرء عند تجاوز الخوف يؤكد قدراته الذاتية، وتُشحَذ الإثارة، ولكن هذا المفهوم لا يمكن صياغته بصورةٍ ملائمةٍ عند ترجمته إلى الألمانية.
“لذة الخوف هي الإدمان أو اللهفة إلى شعور الأمن والسكينة” كانت تلك هي النقطة التي يرتكز عليها تفسير الطبيب المجري والمحلِّل النفسي ميشائيل بالينت، وهو أول من وضع تفسيرًا لظاهرة لذة الخوف، ويقوم ذلك التفسير على أن المرء يعرض نفسه للخطر “طواعية” ويتخلى عن الأمن في سبيل استرداده لاحقًا، وإبَّانَ تلك الفترة يتأقلم المرء مع شعور الخوف من أجل الشعور في النهاية بلذة استعادة الأمان مرة أخرى، ووَفْقًا لتفسير بالينت فإن عملية التخلي عن الأمن من أجل استعادته مرة أخرى تلعب دورًا مهمًّا في التنمية:
يبحث الأطفال عن مواقف وألعاب مثيرة ومرعبة تولِّد بداخلهم شعورًا بالخوف ولكنهم سيتقنون اللعبة ويعتادون المواقف في النهاية، مما يثبت لهم أنهم أقوى وأقدر على التعامل مع الخوف في المستقبل.
الكورونا: ما بين نظرية التطهير ورؤية الغضب!
دوافع لذَّة الكوارث
حين يشعر المرء بالخوف الذي ما يلبث أن يتحول إلى ابتهاج فنحن بصدد “لذة الخوف”. على سبيل المثال: عند ركوب لعبة السفينة الدوَّارة أو عند القفز بالحبال عندها يكون المرء على الجانب الآمن من لذة وقوع الكارثة أو تحديدًا يكون في دور المشاهد، فالطاقة التي تتولد من الخوف لا تظهر في صورة دفاعية أو مقاومة مع لذة الكارثة ولكنها تظهر بصور أخرى: فأحد أشكالها يتمثل في الهروب من الروتين المملّ، وقد كتب الأديب فريدريش زيبرج.
“إن الروتين اليومي في ظل الديمقراطية ومشكلاتها الكئيبة يظل مُمِلًّا، في حين أن الكوارث الوشيكة تصبح في غاية الإثارة… فإذا لم نعد نعرف ما جدوى وجودنا في هذه الحياة، فعلى الأقل نرغب في أن نكون جزءًا من فترة يخلدها تاريخ العالم. من العسير جدًّا أن تعيش بشكلٍ صحيحٍ، لكن بالتأكيد ستعدو بنا تلك الحياة نحو الموت في النهاية”. ومن ناحية أخرى نجد أن لذة الكوارث من شأنها أن تطلق العنان للخيال والعزيمة. وفي مقالة بعنوان “مرآة” اعتبر الكاتب تيا دورن أن حالات الكوارث هي “وقت الإشارة العظيمة” “الكوارث تهز المرء وفي نفس الوقت تسمح له بالتَّرَنُّح نحو مُنقِذه”
ما إن يحل الوقت الذي تضربنا فيه الكوارث بالفعل، حتى تموت لذة الكوارث في الحال. ويقول فيرت: “إن الوعي بخَطَر كورونا ينمو، وقد قدّر الناس الوضع بشكلٍ واقعيٍّ”. وهنا نؤكد على أن من يمكنه الشعور باللذة هو الشخص الذي يقف في دور المشاهد من الجانب الآمن دون أن يكون جزءًا من الكارثة، ومع ذلك لا بد من الإقرار بأنه في حالة تفشي الأوبئة يكون من الوارد جدًّا إصابة الجميع بالوباء، كما أن العنصر الرئيس في لذة الكارثة يكون هو أيضًا حدثًا مذهلًا يُودِي بنا إلى الغرق في خيالات مثيرة كما حدث مع الهجمات الإرهابية في (11) سبتمبر، فذلك لا يحدث فقط مع الفيروسات المرئية تحت المجهر.
يقول المحلِّلون النفسيون: إن الأعداد الضخمة من حالات الإصابة وتقارير الوفيات خلقت نوعًا من الصدمة الواقعية، وأن العديد من الأشخاص الآن أصبحوا أكثر واقعية وبدؤا في تقدير خطر الوباء وعواقبه حقّ قدرهما، ثم شرعوا في اتخاذ تدابيراتهم الاحترازية مثل إنهاء تواصلاتهم الاجتماعية. وتشارك إيفا هورن الرأيَ مع فيرت بأن لذة الأزمات تحدث فقط عندما يكون الشخص آمنًا، وتقوم إيفا بتدريس قواعد اللغة الألمانية بجامعة فيينا، كما تعمل على تصوير الكوارث وتوظيفها في الأدب والسينما، وتقول هورن : “تعود الكثير من الأفلام الشهيرة التي تدور فكرتها حول الأوبئة إلى الفترة التي تعقب الأزمات المالية؛ حيث يكون شعور الشعوب بالتهديد غامضًا إلى حَدٍّ ما” وأردفت: إننا بالفعل نجد الكثير من الناس يتلهفون لمشاهدة مثل هذه الأفلام في أوقات الكوارث، لكنهم بالكاد يطيقونها ويحتملونها؛ حيث إن الواقع يظل مناقضًا لأحداث الفيلم، وقد يقودنا ذلك إلى الشعور بالقلق أو على العكس يشعرك بالعزاء والسلوان.
وكأن كورونا ليس كافيًا!الألم المتزايد لدى كبار السن نتيجة العزل المنزلي
لماذا عليك تجاهل كل الضغوط الإنتاجية الناتجة عن فيروس كورونا؟
لكُل شيء جانبٌ مُشرق، فما الجانب المشرق لكورونا؟
كيف تساعد أفلام الكوارث على التهدئة
يصور فرناندو ميرليس سيناريو غريب للوباء في فيلمه “مدينة العميان”؛ حيث يتفشى فيروس يصيب الناس بالعمى، فتترك الحكومة المصابين يلقون مصيرهم في مستشفى مهجور للأمراض العقلية، وبعد حين تسيطر على الموقع عصابة مسلحة، وحين يتمكن المسجونون في النهاية من نيل حريتهم، لا يجدون حراسا؛ ويكتشفون أن كل من يقابلونهم فاقدي بصرهم بالفعل.
هنا لم يعد للدولة وجود داخلي أو خارجي باعتبارها قوة نظامية، وعلى عكس ذلك نجد في فيلم “العدوى” لستيفن زودربورج أن الوباء يتخذ مسارًا أخفّ وطأة، فمحور الفيلم الأساسي يدور حول معرفة طرق وأعراض العدوى، ثم تطوير لقاح تنجح تجربته في الفيلم في ظرف ستة أشهر فقط، هنا يراعى الحفاظ على النظام العام دون تقييد حازم للحقوق المدنية، كما أن الحداثة تستند على مبدأ التفاؤل بالخطوات المتجهة نحو التقدم، وفي نهاية المطاف يمكننا الحفاظ على ذلك التفاؤل وعلى أسلوب حياتنا أيضا.
تقول هورن: “إنني أشاهد ذلك الفيلم مرة أخرى في الوقت الحالي؛ كي أستطيع على المستوى الفكري أن أتعامل مع ما يمكن أن يحدث. ففي الأفلام بدلًا من الشعور بلذة الكارثة، تعطي الأحداث صورًا قد تكون عنيفة، ولكنها على الأرجح تكون سببًا للطمأنينة وتأتي في إطار سيناريو ينتهي نهاية جيدة.
اللذة الحقيقية للكارثة لا يمكن توقعها إلا لاحقًا، حين ينتهي الوباء الحالي وتتوحش الرغبة في الخروج من الروتين اليومي مرة أخرى، ذلك الروتين الذي ما يزال بعيدًا عنَّا في الوقت الحالي.
add تابِعني remove_red_eye 1,060
مقال هام حول لذة الخوف من كارثة الكورونا
link https://ziid.net/?p=57738