كيف ضاعت أصواتنا كأفراد؟ عن الرأي الفردي الضائع
الصراع الوجودي بين الرأي الجمعي في السوشيال ميديا والوجود الفكري الفردي للإنسان الحديث. مشكلة تأثير التكنولوجيا على الأفكار
add تابِعني remove_red_eye 389
أعزائي القراء، هذا كلامٌ أكتبه تذكيرًا لنفسي ثم لحضراتكم جميعًا، عن شيءٍ ما، مرضٍ ما، لاحظت أنه يؤثر فيَّ كثيرًا، وعرفتُ –ولو إني لم أُعالج منه تمامًا– بعض العلاج له.
تحولَت آراء الناس وتَعليقاتهم على السوشيال ميديا، سواء إن كانت عن حوادث أو أخبار، أو حتى آراء نقدية حول كتاب أو أغنية أو فيلم، أو شخصية فنية وخلافه، لتكون مؤثرة بشكل طاغي على عقلنا، الواعي بصورة ومباشرة وعلى العقل الباطن بصورة غير مباشرة.
نحن حرفيًّا نستسلم وننقاد تمامًا للرأي الجمعي والعقل الجمعي بطريقة متلاعبة بالعقل وغريبة جدًّا، غريبة حتى عن طريقة تفكيرنا وطريقة رؤيتنا للحياة وللأفكار.
لكن ما يحدث فعلًا في حالات كثيرةٍ وأكثر مما نعتقد، أننا لا يكون لنا رأي حقيقي أو كلمة في الأمر، وإنما يكون أمرنا هو اختيار واحد من الآراء الجمعية المنتشرة حول الأمر، أو بمعنًى أدق اختيار جانب واحد من الجوانب المعروضة للقضية، وكأنها اختيارات محدودة للعقل وليس باستطاعته الخروج عنها، وأنه لو خرج عنها يكون قد ارتكب ذنب الخروج عن المجتمع أو عن الأفكار التقليدية، مع أن هذا الرأي الجمعي نفسه قد يكون -وهو في الأغلب يكون- غاية في الشدوذ والتطرف والعنف والعنصرية، وغاية في التعميمية وقولبة الأمور، واختصار الواسع وتوسعة المُختصر المباشر.
هذه مشكلة كبيرة حقًا، وليست فقط بالنسبة للمجتمع –وهذا أمر واضح وأثره مباشر وقوي جدًّا– لكن أيضًا لاتساق ذواتنا وصحتنا العقلية، ولعدم توهان عقلنا وضميرنا وحريتنا العقلية، ومعها مبادئنا وفطرتنا وبديهياتنا السوية غير المحرفة، وضياعنا في العقل الجمعي وسجونه أيًّا كان شكل هذه السجون، وبالتالي، ننسى معها من نحن أو من أين جئنا، أو إلى أين نذهب، بمعنى أدق ننسى رؤيتنا الفردية الحرة للحياة، ونصبح مجرد مُصوِّتين انتخابيين لا قيمة لنا ولآرائنا، نختار ما بين آراءٍ مطروحة أمامنا لا نعرف من طرحها، أغلبها شاذ ومُحَّور ويكرهه العقل السليم، ومع ذلك، فلا مناص من الاختيار بينها، فنختار! نختار حتى لو كنا ضدها كلها! حتى لو كنا سنخالف أنفسنا! ولكننا نختار، ويضيع رأينا في الرأي الجمعي، وفي صراع إبداء الصوت الذي يضيع في السوشيال الميديا بلا فائدة.
والحل في ذلك عندي –ولا أفرضه على أحد بالطبع، لكنني أرتأيه– هو ببساطة ألا نسمع لآراء، لا نسمع الآراء من السوشيال ميديا، ولا نسمع الأخبار من السوشيال ميديا، لا نسمع إلا بعد أن نرى بأنفسنا، ونبحث بأنفسنا، ونتعمق بأنفسنا، ونكون رأينا الكامل الشامل حول الأمر، بل ونكون الآراء الناقدة لرأينا في عقلنا، ونناقش هذه الآراء بجانب بعضها، ونضعها في سياق عقلنا الواعي الناقد الحر، ونفكر فيها حتى نصل إلى فكرة ذلك الاتزان في الوعي داخلنا بين قبول بعض الأمر وترك بعضه، أو حتى في وضع وجهة نظر محايدة تجاهه، والاطمئنان إلى كل هذا في داخلنا. حينها فقط، يمكننا الذهاب بعقل واعٍ لنفسه مدرك لرأيه، ناقد فاحص لآراء غيره، لنضطلع ونتأمل ونناقش آراء الآخرين، وإن كنت أرى –وهذا عن تجربة شخصية مررت بها وعانيت منها– أن آراء بعض الناس سوفسطائية مخادعة هدامة، لا أرى منها إلا الخطر والعبث.
فنلتزم أولًا وأخيرًا بآرائنا نحن عن تجربة وقرب وتقصي، ولنضع لها موازينها ونأخذ بأحسنها، ونأخذ بعدها من آراء الناس بأحسنهم، وأقصد بأحسنهم هنا أحسن الأفكار وأحسن الناس، فليس كل صاحب رأي يؤخذ برأيه. ولا أقول هنا أن نحرم الناس من إبداء آرائهم، حاشا لله، بل أقول إننا يجب علينا نحن أن نحدد الذين نأخذ بآرائهم ومن الذين لا نأخذ بآرائهم، أيضًا بحريتنا وباستخدام عقلنا الواعي الحر. وهذا كله والله أعرف أنه أصعب للعقل، وأكثر إجهادًا للفكر، ولكنه في كلٍّ أصلح له ولصحته من الضياع ومن الموت حيًّا.
وفوق كل هذا وأهم، لا أقول ألا ننفتح للآراء المختلفة عنا، بل بالعكس، أنا أشجع عليها تمامًا وأتخذها منهجًا لي على الدوام، لكن هذا لا يكون بتلك الصورة الهوجاء العبثية للسوشيال ميديا، التي تتعامل مع الناس بمنطق المذنب والجلاد، أو بمنطق الشاذ أو الخاين أو الكافر وغيره وغيره، لكل الأفكار المغايرة والمختلفة، لكني أقول أن نلجأ لبيئة صحية عقليًّا أكثر للاختلاف، ذلك الاختلاف الجميل الناضج الواعي، الحر أيضًا، الذي تقدمه لنا جوانب مثل الكتب والفنون والآداب، والمسرح والسينما والموسيقى، وجلسات الفكر والأدب –الحرة– وأمثالها. وكذلك أن نعرف الأخبار من مصادرها الموثوقة المؤكدة، أو بمعنى أدق الأكثر دقة وتحريًّا وقربًا –مع اختلافنا حول هذه الأمور أيضًا– وليس من مجرد خبرٍ مكتوبٍ على صفحة، والهجوم والجدل عليه متدفقٌ بسبب وبدون سبب.
نحتاج إلى بيئات سوية للعقل، بعيدة تمامًا عن صخب السوشيال ميديا هذا، المثير للغثيان المثير للاكتئاب، العبثي الذي لا طائل تحته ولا فائدة منه.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 389
مقال مثير حول علاقة الضغوط بالآراء الفردية
link https://ziid.net/?p=65776