كيف يكوّن المجرمون مجتمعًا واحدًا في السجن؟
إن السجين يشعر بالحزن والقلق واليأس، إذا لم يكن معه مال، وعندئذ يمكن أن يرتكب أية جناية من أجل الحصول عليه. دستويفسكي.
add تابِعني remove_red_eye 2,365
أعتى مجرمي روسيا، يُنفون جميعًا إلى سيبيريا، حيث سجن الأشغال الشاقة، مجبرين على العيش معًا. لكن كيف يُمكن عيشهم معًا؟ ألا يمكن أن تُضْرم الحرب بين هؤلاء؟ كيف يمكن لقوة حتى إذا كانت بالسلاح أن تضبط هؤلاء؟ وأن تسيّرهم في مكان واحد؟ يأخذنا دستويفسكي في روايته “مذكرات من البيت الميت”، نعم يسمي السجن بالبيت الميت! على لسان ألكسندر بيتروفيتش النبيل الذي لم يكن ليصير مجرمًا قاتلًا لولا خيانة زوجته له، يحكي لنا هذه الحياة بتفاصيلها. فسنحاول بالتحليل فهم كيف عاش هؤلاء معًا.
المكانة
يقول ألكسندر بيتروفيتش: كان السجناء مجرمين محرومين تمامًا من حقوقهم المدنية، منبوذين من المجتمع، وموسومة وجوههم بالحديد والنار، لكي تكون شاهدة باستمرار على عار الجريمة التي اقترفوها. قد أثبتُّ في مقال سابق “من يفرض المكانة الاجتماعية؟” أن الاحترام في المجتمع الروسي من خلال روايات دستويفسكي يعتمد على مكانة الشخص. والمجرمون هم أناس معتدون على المجتمع، خارجون عليه، أي أحط فئات المجتمع، فإذن ليس لهم من مكانة في أعين الناس، أي لن يعطيهم أحد أي احترام. ومع حفر الجريمة على الوجه، سيرى دائمًا السجين في أعين الناس، مهما فعل، حتى حين يخرج إلى الحياة الحرة مرة أخرى، قلة وتكبرًا وخوفًا.
مقتضيات المكانة
تتخيل معي الآن ما سيعطى لمثل هؤلاء في السجن؟ مكان النوم، الطعام، الملابس، المعاملات. مؤكد كل شيء سيعطى لهم هو فقط لأجل أن يعيشوا. فكيف يتعايش أولئك مع ظروف الحرمان هذه؟
الرغبات الطبيعية
كل إنسان مفطور على رغبات تسعى إلى تحقيق نفسها دوامًا: الاجتماع والتواصل، والأكل والشرب، والجنس.
الرغبات الاجتماعية
وهذه مثل الطبيعية، ولكن من يضعها فينا هو المجتمع الذي ننشأ فيه. فبيتروفيتش يرينا ثلاث رغبات أساسية خلال الرواية: الشاي والتبغ والخمر. ورغبات فرعية كملابس وأحذية وفرش للسرائر ومعاطف وغيرها.
الأعمال
ليحقق السجين هذه الرغبات يحتاج إلى مال. وهم في السجن مجبرون على الأشغال الشاقة ولكن هذه الأشغال لا تعطيهم شيئًا. فلذلك وجب أن يحدثوا أعمالا تعطيهم المال فيحققوا الرغبات.
فالقاعدة إذن الرغبة تخلق العمل. المجتمع هو من وضع فيهم هذه الرغبات، وهم مثلًا قد رأوا خياطين، أو منهم خياطون، فكأن واحدًا منهم قام وقال أنا سأخيط. وهذا ما حصل. فكل رغبة ظهر لها واحد يقوم بها ويأخذ مالًا قبالها، إما بالصناعة، أو بالتجارة، أو بالتهريب إن كانت محرمة كالجنس والخمر. وهكذا صارت هذه الأعمال هي أساس مجتمع السجناء، يتفاعلون بها، يعرفها واحد ويتعلم منه غيره، وتورّث هذه المهنة. وتبقى ما دامت الرغبة.
التفاعلات
يقول ألكسندر بيتروفيتش: إن المجرم الذي تمرد على المجتمع، يكرهه ويعتبر نفسه دائمًا على حق: المجتمع في نظره مخطئ، أما هو فلا. بناء على هذا المبدأ، ماذا يمكن أن يجعل عدم الاحترام فيهم؟ فقد قلنا في البداية: إن الاحترام يعتمد على المكانة، ولذلك فهم غير محترمين، فلا يستحقون أي شيء. لا يستحقون إلا أذل المعاملات. يقول ألكسندر: ليس في وسع الاعتقالات والأشغال المرهقة إلا أن تفاقم في هؤلاء الرجال الحقد العميق، والعطش إلى اللذات المحرمة والاستهتار الفظيع.
بمعنى أصح يقول: إن كل ما يوهب لهم، هم الذي يرون أنفسهم فوق المجتمع، من عدم احترام في السجن، سيغذي أنانيتهم هذه التي ترى أنها على حق. وستشتد جرائمهم. فكيف سيتعامل هؤلاء معًا عندما يجبرون على المكوث عشرات السنين جنبًا إلى جنب؟
1- الوقار والصمت والتقطيب والغرور، وعدم الدهشة من أي شيء. وهذه حالة عامة، من يخرج على هذه الحالة ويكون مرحًا، يكون محل احتقار من الجميع، ويتدخلون لرده إلى هذه الحالة.
2- الشتيمة، وأصبحت فنًّا عندهم كما يصفها الكاتب.
3- المشاجرات المتكررة لغير ما هدف. والكاتب يصفها بأنها أداة للتسلية.
4- الدسائس والوشايات.
5- الحسد
6- الثرثرة.
7- السرقة.
كما نرى فكل التفاعلات تعبر عن ذات متعالية تقلل من الآخر. وحسبي أن أضع محادثة بين سجينين تُفهم فيها ما أقول. ولكن يجب أن أقول إن هذه الأفعال تفعل دون أي إحساس بالذنب هي أشياء طبيعية كما يقول ألكنسدر بيتروفيتش.
قال الأول:
– ليس أنا الذي يمكن أن يسرقه أحد، بل أخشى أن أسرق أنا نفسي.
فقال الآخر:
– اليد التي تمتد علي: أحرقها.
– وماذا عساك أن تفعل؟ لست سوى سجين… ليس لنا اسم آخر… سترى سوف تسرقك، تلك الخبيثة، دون أن تقول لك شكرًا….. تعرف ذلك اليهودي الذي شنق نفسه، منذ وقت غير بعيد؟
– نعم، أعرفه، ذلك الذي كان خمارًا هنا، منذ ثلاث سنين والذي يسمى غريشكا، الخمار الأعور، أعرف…
– وإذن! كلا، أنت لا تعرف… أولا هو خمار آخر…
– كيف، خمار آخر! أنت لا تعرف ماذا تقول. أستطيع أن آتيك بقدر ما تريد من الشهود.
– أنت تأتيني بالشهود؟ من أنت؟ أتدري مع من أنت تتكلم؟
– أنا من؟ أنا الذي ضربك مرارًا، رغم أني لا أفتخر بذلك. فكفاك اختيالًا!
– أنت ضربتني؟ من يضربني لم يولد بعد، والذي ضربني يرقد الآن تحت التراب
ثم انهمرت الشتائم وكاد أن يتشاجرا لولا أن فرقهما الآخرون.
رغبة الإنسان في الاجتماع مع الآخر والتواصل معه، هي لأنه لا يستطيع أن يعيش لوحده. رغباته تحتاج غيره. مشاعره تحتاج غيره. على من يعلّي ذاته؟ مع من يتنافس ليحس بوجوده؟ فالحاصل هنا أن أغلب المجرمين من عامة الشعب، وهم متعالون على الشعب، ولا يزيدهم السجن إلا غرورًا، فنشأت العلاقات بينهم تعبر عن ذواتهم.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 2,365
مقال مثير عن عالم السجون والسجناء
link https://ziid.net/?p=83137