من سيلفيا بلاث إلى عنايات الزيات: عقول مبدعة نهشتها الظلمة!
المبدعون هم الأكثر عرضة للاكتئاب، قد يكون الأمر متعلقًا بطبيعتهم الأكثر حساسية أو بطبيعة البيئة التي يحتاجون إليها للإبداع
add تابِعني remove_red_eye 607
ظل موضوع الإكتئاب الشغل الشاغل لكتّاب الأدب ولوحات الفنانيين على مرّ العصور، من “إميلي ديكنسون” لـ”دوستويفسكي وكامو” وصولًا إلى “سيلفيا بلاث”، ومن معزوفات “بيتهوفن وشومان” إلى لوحات “فان جوخ”، كتاب وموسيقيون وفنانون قهروا الاكتئاب تارةً وقهرهم تارة، منهم من تعافى تمامًا ومنهم من نهشه المرض، وكثير منهم خسر الصراع واختار الرحيل بنفسه، لكن بقيت أعمالهم الخالدة معبرة عن صراع داخلي انتقل إلى صفحات الإبداع.
يمكن تعريف الاكتئاب كما وصفه الكاتب وليام ستايرون في كتابه “ظلام مرئي: مذكرات الجنون”
الاكتئاب اضطراب في المزاج يصاحبه ألم بالغ الغموض وشديد المراوغة في طريقة ظهوره للذات وللعقل الوسيط، ويكاد يستعصي على الوصف، وبالتالي فإنه يظل مستغلقًا تقريبًا على فهم أولئك الذين لم يختبروه في أقسى أشكاله.
الإكتئاب مرض شديد التعقيد في أسبابه وأعراضه وطرق علاجه، وقد لفت انتباهي ذلك الكمّ من المبدعين ذوي الميول الفنية والأدبية (خاصة الشعراء) الذين عانوا من هذا المرض ووجود عدد كبير منهم قد أنهى حياته انتحارًا بعد صراع نفسي طويل. وقائمة الكتاب الذين عانوا من الاكتئاب قائمة طويلة لا يمكن حصرها هنا، نذكر منهم:
1. إرنست هيمنغواي
في صيف عام (1961م) قام الكاتب الأمريكي الشهير بإطلاق النار على نفسه بمنزله، منهيًا مسيرته الكتابية والحياتية عن عمر يناهز الـ(61) عامًا. ولقد كان همنغواي مهيئًا للانتحار، فلقد انتحر من قبله أبوه وأخاه وأخته، كما كانت كتاباته الأولى تشكل هوسًا حول الموت. “قديمًا كانوا يعتبرون الموت من أجل الوطن شيئًا مقدسًا، ولكن في الحروب الحديثة لا تموت بشكل جميل، بل تموت ككلب دون سبب وجيه” همنغواي حصل على العديد من الجوائز العالمية وأهمها جائزة نوبل للأدب عام (1954م) وله العديد من الأعمال المهمة التي ينصح بقرائتها، أهمها: (العجوز والبحر) و (وداعًا للسلاح).
2. فيرجينيا وولف
الكاتبة الإنجليزية التي ألهمت العديد من الأشخاص بكتاباتها المؤثرة، اختارت أن تنهي حياتها بطريقة تراجيدية تشبه أعمالها، حيث قامت بالتوجه نحو النهر واضعةً بجيوب معطفها حجارةً ثقيلةً تساعدها على الغرق. عانت فيرجينيا في حياتها العديد من الصدمات النفسية التي أثرت على حالتها كموت والدتها أثناء طفولتها وتعرضها للتحرش الجنسي من قبل أخويها. ومن مؤلفاتها المترجمة للعربية: (أمواج) و (غرفة يعقوب).
3. سيلفيا بلاث
عندما علمت الشاعرة آني ساكستون بانتحار سيلفيا بلاث عام (1963م) قالت: “هذا الموت لي”، وقد انتحرت بعدها بـأحد عشر عامًا. الشاعرة والروائية سيلفيا بلاث التي عانت كثيرًا من مرض الاكتئاب، وجدت ميتة بشقتها متأثرة بالغاز وهي تبلغ من العمر (30) عامًا. “الموت فن، ككل شيء آخر، وإني أتقنه تمامًا”.
بلاث التي علّقت على رحيل هيمنغواي قائلةً “هنيئًا له”، لم يكن خبر اكتئابها يخفى على أحد، فخيانة زوجها لها ساهم بتدهور حالتها النفسية قبل رحيلها، والجدير بالذكر أن ابن الشاعرة سيلفيا بلاث (نيكولاس هيوجز) قد انتحر أيضًا ولحق بأمه بعد أكثر من أربعين عامًا، وذلك قد يفسره عُرْضة أقارب الدرجة الأولى لمرضى الاكتئاب للعديد من الاضطرابات النفسية والعقلية. ومن مؤلفاتها المترجمة للعربية: (رسائل سيلفيا بلاث) و (سيلفيا بلاث اليوميات).
4. ستيفان زفايغ
الكاتب النمساوي المعروف الذي عانى ويلات الإكتئاب التي تفاقمت أثناء معاصرته لنازية هتلر واختار تناول عقار الباربيتورايت سنة (1942م) عن عمر يناهز الستين عامًا. من أشهر أعمال الكاتب: (لاعب الشطرنج) و (آموك: سعار الحب). وتمتد القائمة عربيًا بأسماء كانت فريسة للاكتئاب مثل الشاعر المصري صلاح جاهين الذي حتى يومنا هذا لا يعلم سبب وفاته الحقيقي هل هو انتحار أم سكتة قلبية، خصوصًا بعد تفاقم حالته النفسية بعد نكسة (67م).
وكذلك الكاتبة المصرية عنايات الزيات التي رحلت عن الحياة عام (1963م) قبل انتحار الشاعرة سيلفيا بلاث بـ(37) يومًا، ومن الجدير بالذكر صدور كتاب “في أثر عنايات الزيات” للشاعرة إيمان مرسال، التي تتبعت سيرتها الذاتية والسر وراء انتحارها والذي ينصح بقراءته.
عندما يفكر المرء في هؤلاء المبدعين وطريقة رحيلهم عن الحياة يتساءل لماذا أقدموا على إنهاء حياتهم ولم يقاوموا حتى النهاية؟ هل كان بوسع أحد أن يلمح مدى الهشاشة النفسية ويقدم يد المساعدة؟ وهل إنّ الكتاب تغريهم فكرة السيطرة على قصة حياتهم ورسم خط النهاية بأنفسهم؟ تلك أسئلة لا يمكن معرفة إجاباتها، لكنّ المجتمع العلمي وبعد دراسة السّير الذاتية للعديد من الكتاب من القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا وتحليله للمقاطع والمؤلفات المكتوبة، اهتم بطرح أسئلة مختلفة:
هل فعلا الكتاب معرضون للاكتئاب أكثر من غيرهم من المبدعين؟ هل توجد علاقة حقيقية بين نسب وفيات الكتاب والأمراض النفسية المصاحبة لهم ؟
ومع تعدد تلك الدراسات قمت باختيار دراستين حديثتين ذاتَيْ معيار عالي الكفاءة لتسليط الضوء على تلك النقاط.
الدراسات العلمية وعلاقة الاكتئاب بالكتابة
الدراسة الأولى:
في عام (2001م) نشرت دراسة علمية بعنوان (The Sylvia Plath Effect: Mental Illness in Eminent Creative Writers)
تأثير سيلفيا بلاث: الأمراض الذهنية لأشهر الكتاب
وكان الهدف من هذه الدراسة توضيح العلاقة بين الكتابة الإبداعية والأمراض الذهنية المصاحبة للكتّاب ومدى تأثير ذلك على حياتهم النفسية وكتاباتهم الإبداعية، وقد اختيرت سيلفيا بلاث كعنوان للدراسة لكونها واحدة من أشهر الشخصيات التي عانت في حياتها الشخصية واختارت الرحيل في ريعان شبابها (30 سنة) وكذلك للنتائج الخاصة بتلك الدراسة.
وقد خلصت تلك الدراسة إلى العديد من النتائج. أهمها:
1. بدراسة (1629) كاتبًا/ وكاتبة للبحث عن أعراض للأمراض الذهنية/ النفسية وجد أن الشاعرات أكثر عرضة للأمراض الذهنية مقارنة بكاتبات الرواية ومقارنة بالكتّاب الذكور في كل مجالات الكتابة.
2. بدراسة (520) امرأة بمختلف المجالات الإبداعية (شعر– كتابة روائية– كتابة نثرية– سياسة– تمثيل) وجد أيضًا أن الشاعرات هم الأكثر عرضة للأمراض النفسية، وبناءً عليه تمت تسمية تلك الظاهرة بـ (تأثير سيلفيا بلاث). “الكتابة عمل سهل، فليس عليك إلا أن تحدق في ورقة بيضاء إلى أن تنزف جبهتك” دوجلاس آدامز
الدراسة الثانية:
في دراسة أخرى بعنوان Depressed Writing: Cognitive Distortions in the Works of Depressed and Non-depressed Poets and Writers
الإكتئاب في الكتابة: الخلل النفسي في أعمال الكتاب والشعراء المصابين وغير المصابين بالإكتئاب. وقد وضع الانتحار وأهم الأمراض النفسية مثل (ثنائية القطب والإكتئاب والوسواس القهري وغيرهم) كمعيار لتلك الأمراض. و تم تقسيم الوظائف إلى وظائف إبداعية (مثل: الكتابة والموسيقى والغناء والشعر) و وظائف غير إبداعية، و توصلت النتائج إلى ما يلي:
1. أصحاب الوظائف الإبداعية أكثر عرضة للإكتئاب.
2. من الوظائف الإبداعية كانت مهنة “الكتابة” هي الأكثر تأثيرًا على صاحبها بالاكتئاب و قسّمت الكتابة إلى (كتابة نثرية/ كتابة روائية/ شعر/ كتابة السيناريو) وكان الشعراء هم الأكثر عرضة للاكتئاب مقارنة بكل الوظائف الأخرى.
3. تم الأخذ بالاعتبار المقارنة بين الرجل والمرأة، وكانت المرأة هي الأكثر عرضة للاكتئاب، وكانت “المرأة الشاعرة” هي الأكثر اكتئابًا بل وميلًا للانتحار مقارنة بكل الوظائف الخاصة بالإبداع.
الكتابة: نعمة أم نقمة؟
بعد تلك الدراسات قد يظنّ القارئ أنّ (الكتابة قد تكون سببًا لمرض الاكتئاب)، ولكن بالرغم من كون الكتابة مهنة شاقة تضع صاحبها في ضغوط نفسية عديدة ونقد للذات واستحواذ للفكر، لكنّها أيضًا وللمفارقة تستخدم كوسيلة من وسائل العلاج النفسي فيما يعرف باسم (الكتابة التعبيرية = expressive writing) وهي طريقة مستحدثة في ثمانينات القرن الماضي أثبتت فائدتها على مر السنين الماضية.
ففي دراسة حديثة نشرت عام (2013م) أجريت على أربعين شخصًا يعانون من اكتئاب حاد، كان الغرض منها دراسة الحالة النفسية للمرضى بعد حثّهم على الكتابة بصورة يومية ولمدة (4) أسابيع، فقد توصلت النتائج الأولية إلى تحسن أعراض الاكتئاب بداية من اليوم الخامس، وقد استمر ذلك التحسن على مدار مدة الدراسة وذلك باتباع أسلوب الكتابة التعبيرية.
سبب هذا التحسن غير معروف إلى الآن، لكن قد يرجع ذلك إلى الطريقة التي يتمكن منها الكاتب ترجمة المشاعر السلبية إلى كلمات يمكن أن يعبر بواسطتها بأريحية تامة أثناء عملية الكتابة. لذلك ينصح المعالجون النفسيون مرضاهم بكتابة “اليوميات”، ذلك النوع من الكتابة الذي لا يتطلب مهارة أدبية خاصة، ولا يكلف المرء أكثر من ورقة وقلم، فمهما كانت تلك اليوميات صغيرة وبسيطة لكن أثرها النفسي ملحوظ وتساعد كاتبها على التفكير بمنطق سليم والتعبير عن هواجسه وأفكاره.
الدراسات التي تتناول اكتئاب الشعراء والكتّاب عديدة ومتشعبة وقد أخذت بالاعتبار تناول السير الذاتية والمقاطع المختلفة التي عرضت على العديد من الأخصائيين النفسيين مؤكدةً خللًا نفسيًّا لا يخفى على أحد.
ومهما كانت تلك الدراسات دقيقة من حيث الأرقام واللوغاريتمات الإحصائية المعقدة، فلا توجد دراسة واحدة يمكنها تفسير الحالة الذهنية التي يمرّ بها المكتئب، ولا يمكن لأي كاتب مهما بلغت براعته وغزارة مفرداته أن يفسر بالكلمات عمق الحالة النفسية له، وبالتأكيد مهما كانت التكهنات والأسباب الظاهرة للعين فالمنتحر الذي عانى من الاكتئاب قد بلغ ذروة الصمت. “وهكذا خرجنا، ومرة أخرى أبصرنا النجوم”- ويليام ستايرون
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 607
هل توجد علاقة علمية بين المبدعين وأمراض الاكتئاب؟خصوصًا الكتّاب والشعراء.. مقال يكشف لك الحقيقة
link https://ziid.net/?p=67554