التنمية البشرية ومسكنات الألم
أُعلنت الحرب على كتب التنمية البشرية وأصبحت تُلقى بالحجارة ويوصم قارئها بالجهل أو السذاجة لكن أين الحقيقة في تلك المعركة؟
خلال الفترة الماضية دب صراعٌ شرسٌ بين فئتين يأخذان الأمر بجديةٍ بالغةٍ: الأولى تؤيد أهمية كتب التنمية البشرية، والأخرى ترى أنها مجرد تراهات تخدع الساذجين فلا تمنحهم علاجًا حقيقيًّا لمشكلاتهم بل فقط تسكن آلامهم مؤقتًا ثم سرعان ما يختفي أثرها كأنه لم يكن بل ربما تزيد العلة سوءًا، وقبل أن تحدد لأي فئة تنتمي وتتورط في هذا الصراع يجب أن نستعرض بعض النقاط أولًا.
إن للكتب القدرة على تغيير حياتنا بطريقةٍ لا نتوقعها، وذلك إذا سمحنا لها بأن تتجاوز مجرد كونها مصدرًا للترفيه أو التسلية، وأجدنا اختيار الكتاب المناسب، وذلك ينطبق على جميع أنواع الكتب. اتجه الكثير إلى كتب التنمية البشرية رغبة في الحصول على تشجيعٍ إيجابي أو لحل مشكلة ما كالقلق أو الخوف من التحدث أمام الجميع.
كان لا بأس في ذلك لفترةٍ من الوقت حتى اشتدت المعركة وأُعلنت الحرب على هذا النوع من الكتب وأصبحت تُلقى بالحجارة ويوصم قارئها بالجهل أو السذاجة لكن أين الحقيقة في تلك المعركة، وهل التنمية البشرية علاج أم مجرد مسكن مؤقت؟
(علم) التنمية البشرية
إطلاق لقب “علم” على التنمية البشرية يعتبر من الأمور التي لا نعرف تاريخ بدايتها خاصة إنه غير معترفٍ به في جامعاتنا ولا ندرسه بها حتى إن البعض تمادوا في اعتباره علمًا وصنفوه إلى أقسام فهناك: مجال التنمية البشرية الاجتماعي، ومجال التنمية البشرية الاقتصادي، ومجال التنمية البشرية السياسي..
إذا بحثت عن الطريق لتكون مدربًا للتنمية البشرية ستكون الإجابة بضع دورات تدريبية ثم ها أنت جاهز لتلقي محاضرات ودورات تنمية بشرية سواء أكان الهدف إلهام الحاضرين أم جمع المال.
جديرٌ بالذكر أن تلك الدورات التدريبية لا تتعلق بالتنمية البشرية بحد ذاتها بل بإعداد محاضر في أي مجال مثل شهادة TOT وشهادة PCT، وهذا غريب لأنك إذا رغبت في أن تصبح مدربًا في مجال محدد ألست بحاجة لدورات أخرى في هذا العلم بجانب كونك محاضرًا جيدًا؟! فالمحتوى المُعد جيدًا من أهم ما ينصحونا به في دورات الخطابة Presentation.
إذًا التنمية البشرية ليست علمًا، وهي تختلف تمامًا عن علم النفس الذي وضعت نتائجه بالتجارب والدراسات التي تستمر في كثيرٍ من الأحيان أعوامًا حتى يستخلصوا نتيجةً صحيحةً بينما التنمية البشرية فتعتمد على التجارب الذاتية للأفراد أو لفردٍ واحدٍ فقط هو الكاتب.
التنمية البشرية بين وهم وحقيقة
كثير من كتب التنمية البشرية، خاصة الحديثة، تكون عبارة عن خطوات وعبارات تشجيعية يُدعى أنها سوف تحل مشكلتك بدون أي دليلٍ على أن الكاتب نفسه تعرض لمثلها من قبل أو أي إثبات إنه طبق تلك الخطوات وأثبت نجاحها على نفسه أو حتى على شخصٍ آخر.
هذه الكتب هي ما أؤمن أنها تبيع لقرائها أوهامًا، ولا داعي للتحدث عنها أو الاهتمام بها، وإنه لمن الحماقة أن يضيع أحد الوقت في قراءتها فما هي إلا كلام تشجيعي أجوف لا يدوم أثره كثيرًا.
أما النوع الآخر من كتب التنمية البشرية، والتي أفضلها وأجدها مفيدة حقًّا، هي التي تجعل القارئ يلقي نظرة على حياة الكاتب فيتعرف على الصعاب التي واجهته وكيف استطاع مواجهتها ليحل مشكلته، والتي من الممكن أنها تتشابه مع مشكلتك التي دفعتك إلى قراءة هذا الكتاب من البداية.
لكن برغم الفائدة التي تبدو عليها هذه الكتب إلا إنه من اللازم ألا تتخلى عن حذرك فأنت عرضة للوقوع في وهم من نوع آخر؛ فهناك خط أحمر إذا لم تعرف بوجوده وتجاوزته فقد سقطت في مشكلة أكبر من تلك التي رغبت في حلها في المقام الأول.
الكاتب يمنحك خبرته الشخصية بالتالي يجب أن تفهم جيدًا أن الكتاب الذي تقرأه ما هو إلا خبرات شخص آخر غيرك في الحياة، شخص له من الظروف ما يختلف عنك، بالتالي كيف يمكن لشخص لا يعرف حياتك أو ظروفك أن ينصحك ويساعدك على إدارة حياتك؟!
البعض يأخذ كل ما يُذكر في تلك الكتب كمسلمات، قوانين واضحة غير قابلة للجدال، ويبدأ في تطبيقها على حياته فيُحبط عندما لا يفلح الحل معه، أو الأسوأ لا يحاول من الأساس تطبيق ما تعلمه فتصبح الساعات التي قضاها أمام الكتاب كتناول مسكن للألم.. خفف من وجعك، جعلك تشعر بشعور أفضل لكن لم يعالجك حقًّا بل أن الإكثار منه بدون علاج حقيقي سوف يضيف علة جديدة إلى حياتك.
يجب أن أؤكد أنه ليس معنى هذا النفور من كتب التنمية البشرية ووصمها بالوهم والتراهات كما يفعل الكثيرون في العصر الحالي خصوصًا في ظل أولئك التافهين الذين يدّعون المعرفة بكل شيء فيلطخون نقاء بعض الكتب المفيدة حقًّا، لكن ما عليك فعله هو أن تتعلم متى تستخدم مسكن الألم ومتى تحتاج إلى علاج حقيقي.
الاستخدام الصحيح لمسكنات الألم
إذا شعرت بألم شديد يجب أن تأخذ مسكنًا لكن لا تعتمد عليه بدون اللجوء إلى الطبيب وهكذا يجب أن يكون التعامل مع كتب التنمية البشرية فيجب أن تحذر من أن تجعلها كمسكن مؤقت بدون علاج حقيقي؛ قد تحفزك تلك العبارات التشجيعية لكن التطبيق العملي هو العلاج الحقيقي، ويجب أن تتذكر نقطتين في غاية الأهمية:
1- أن تركز جيدًا وتتخذ ما يفيدك وينفعك، وتدفع ما يضرك أو ما لا يتناسب مع حياتك وظروفك؛ فتجارب كل شخصٍ تختلف عن الآخر فلا تدع ذلك يحبطك كثيرًا.
2- تطبيق ما تخيرته من معرفة؛ فالمعرفة النظرية الجامدة بدون تطبيق عملي لا أهمية ولا قيمة لها كما سبق ذكره.
فإذا قرأت كتابًا عن “التغلب على القلق” حاول أن تطبق تلك الدروس تدريجيًّا، وهكذا في أي موضوعٍ آخر، وإلا سوف تكون معرفتك مجرد مسكن لمشكلتك بدون حل حقيقي وسرعان ما سيزول أثره وكذلك ذكراه من ذاكرتك.
التنمية البشرية والإسلام
كتب التنمية البشرية قد تتعارض أحيانًا مع الدين الإسلامي؛ فالكتب المترجمة خاصة توضح لك إنه بفعل تلك الخطوات المُجربة عمليًّا سوف تحقق نجاحًا مضمونًا لكن هناك ما يجب أن يترسخ في عقلك، وهو إرادة الله عز وجل التي قد تتعارض مع رغبتك.
اطمئن؛ فعملك الجاد لن يضيع أبدًا حتى إذا لم يُكتب لك نجاح هدفك فسوف يفتح الله لك بابًا يكون أفضل مما تتمنى، لذلك أُمرنا بالسعي أما النتائج فلا تخصنا بل هي إرادة الله تعالى وكلٌ خير، وفي الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال:
“احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا، وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان.”
الخلاصة
أخيرًا، وبعد وضع الحقائق بين يديك ربما قد اخترت الفئة المناسبة لك لكن جدير بالذكر أن الصراع الدائر بين الفئتين هو من التفاهة بحيث لا يعيره العاقل اهتمامًا فإنما المعارك تكون في أمورٍ أهم لا بشأن آراء القراء الشخصية فيما يقرأون.
أجل، هناك كتب مليئة بالتفاهات حتى النخاع ولا استنكر أن يتجاهلها القارئ لكن هناك كتب تعتبر سيرة ذاتية لكاتبها ينقل خبراته بالخطوات التي بالفعل قد تكون عاملًا مساعدًا لك، والعبرة تكون للقارئ أن يُحسن اختيار الكتاب المناسب ليصاحبه ويستفيد منه.
المليونير فرانك ماكيني الذي يصف أحد الكتب بأن تطبيق ما فيه كان نقطة تحول في حياته، وهو ليس الوحيد فهناك الكثير ممن عُرفت أسماؤهم يعترفون أن بعض الكتب ساعدت في تغيير حياتهم بالفعل، وربما تعرف أحدهم أو تكون أنت نفسك واحدًا منهم.
التنمية البشرية رغم أنها ليست علمًا حقيقيًّا كما أوضحنا سابقًا لكنها تساعد أحيانًا، فلا أعتقد أن المشكلة تكمن في كتب التنمية البشرية نفسها بل في قدرة القارئ على انتقاء ما يقرأ، فما على المرء إلا أن ينتفع بما يفيده ويتجنب ما يضره.
link https://ziid.net/?p=110984