هل كلمة “عانس” تُهمة أم قوة؟
أتدري ماهو الأعظم إثمًا والأشد وطئًا، ألا نرى في حياتنا الدنيا إلا الزواج، عليه تقوم الحياة وعليه تنتهي، وما هو إلا محطة في حياتك
add تابِعني remove_red_eye 516
عانس، مصدر عَنْس، وتعني الصخرة القوية المُعارضة لمجرى النهر، سُميت الناقة التي تتمايز عظامها وتقوى بالناقة العَنْس، والعَنْس تشير أيضًا لطيور العقاب التي اشتهرت بقوتها وبأسها فلا تأكل إلا ما تصيد. إذن كيف ومتى طُمست المعاني واستحالت المصطلحات وحُرّفت الغاية، ولم ينته الأمر هنا، بل رُبطت بما يعارضها تمامًا من معاني الضعف والهوان. والحق كل الحق ألا ضعف وهوان إلا في مروجيها بغير حقيقتها.
لماذا اقترن الضعف والهوان “بالعانس” في معناها المتصبغ؟
دائمًا ما تميل النفس البشرية لتكميم فضولها، وإلا سيقتلها التفكير لا محالة، وإنها لخير الصفات إذا سُخرت لما خُلقت له، وإنها الأشد فتكًا والأعظم إثمًا إذا خضع فضولها لإجابات واهية لا يشق لها المنطق طريقًا ولا تُأخذ على مآخذ العقلاء، تُثبط بها ما تبقى من خلايا عقولهم في خزي وضلال، فيحيل كعضو بائس لا فرق بينه وبين سائر أعضاء أجسادهم، وعلى هذا النَّوْل نسَج العامة آراءهم، واستغشوا بها أعوامًا تلو الأخرى، يأبون أن تلقى عيونهم سنا الحقيقة وضياءها، فبئسًا لمن استغشى وبئسًا لما يُورثون.
فترى المرء منهم يصيح في نبرة خوفًا خالطها الحب والإذعان، معاتبًا ابنته التي آثرت تأجيل زواجها لمتطلباتها الخاصة فيدور بينهم حوار أكاد أُجزم أنه قد نشب أو سينشب ذات يوم شبيه له في ديارنا. حوار لم يلبث أن تكمد ناره بالأمس ولم يلبث إن تخمد ناره اليوم حتى يُدار غدًا. فيقول ولي الأمر، والتي غالبًا ما تكون الأم لأحد أبنائها والتي غالبًا ما تكون فتاة:
– حمدًا لله إنك لست قبيحة، ولا معابة بجسدك أو نسبك، مثل جارتنا التي تقطن جوارنا، يا بُنيتي أنا لا أكنّ إلا كل حب وخوف لكِ وعليك من براثن الأيام وصروف الدهر، أتريدين أن تصبحي مثل تلك الفتاة؟ ألم تريها كيف تقضي ليلها وحيدةً شاردةً بين صنوف من المسليات الكاذبات؟ تُفضي لها بعمرها إلى أن يحين موعدها وإني لأحسبه راحة لما هي فيه، ألم تَرَيْ كيف باتت مُهملة لا يأبه لها أحد إلا شفقة؟ ألم تسمعي الألسن وهي تتضارب بها مضاربها فتثرثر من عيوبها ما شُهد بها وما لم يُشهد؟ ألم تَرَيْ نظرة الحزن التي تَلقاني بها والدتها إذا التقيتها صدفة؟ أتريدين للحزن أن يرافقني وما أردت لك إلا كل حب، صغيرتي أنقذي نفسك وأنقذيني من هذا المصير المضني.
– ترد الفتاة: أمي ألم تملّي من سرد تلك الأحاديث مرارًا وتكرارًا. حسنًا لم أملّ أيضًا إخبارك مرارًا وتكرارًا إني أريد أن أكون أنا ولم أبلغ ذلك إلا إذا تيقنت من سبب وجودي بهذه الدنيا ولم يرشدني إلى هذا إلا تلك الخطوات التي أخطوها جسامًا حينًا ورثية حينًا. لا أعبأ بنتائجها فإن لم ترشديني للطريق فستنشأ لي طريق خاص، دَعِيني وشَأْني ما لي وما لعاداتٍ ورثتموها ما أنزل الله بها من سلطان.
– ما لي وما لفتاة أرادت أن تفني عمرها في مسلّيات كاذبات مضنيات، أنا أريد أن أكون …
تقاطعها الأمّ صارخة: لن تكوني إلا عانسًا.
دائمًا ما تنتهي مثل تلك النقاشات بما تضمنته الجملة الأخيرة، تفصح عنهم ما آلت إليه ضغائنهم، فهم لا يرون العَنْس قد يكون اختياريًّا، بل شئت أم أبيت فسيكون هنالك سبب وراء عَنْسك، قد لا تدركه بعدُ بالرغم من كونك صاحب الأمر، ولكن لابئس، فلن تُعنت بغير المشاع، إن كنت فتاة فبالتأكيد رأوا فيك من قبح قلوبهم أو سوء النسب أو تتعالى الظنون فتُنعتي بسوء السمعة، ولكن إذا كنت فتى فيكفيهم أن يروا عجزك المادي كمانع. ولذلك دائمًا ما يقترن اسم “العانس” بالوضيع من الصفات المخزية وهذا ما شوهد ويُشاهد وسيشاهد ما شاء الله له أن يُشاهد إلى أن يضمحل ذات يوم.
لماذا تجلت العنوسة كمشكلة في بلادنا؟
أصبح لتلك الجملة صدى مضلًا للوهلة الأولى، فبمجرد طرح السؤال، تتعالى الأصوات بغلاء المعيشة وتكاليف الزواج العالية وما إلى ذلك، وبالفعل قد تكون تلك المشكلات معيقة لإتمام الزيجة ليس إلا والخاضعة لإرادتنا واختيارنا فإذا أردنا خفضها لخفضناها، ولكن دائمًا ما نُذعن لصوت المجتمع وأعرافه، وبالمثل الزواج من عدمه في حد ذاته شيء اختياري، فلماذا تُذعن اختياراتنا الخاصة لأصوات المجتمع يحولها لفاجعة يأثم فيها الفرد وما هو بآثم.
أتدري ما الأعظم إثمًا والأشد وطئًا؟ ألا نرى في حياتنا الدنيا إلا الزواج، عليه تقوم الحياة وعليه تنتهي، وما هو إلا محطة في حياتك، قد تمرّ بها مرور الكرام وقد تَنزل بها فتأخذ من متاعها ما تأخذ، وقد لا تمرّ بها مطلقًا، وفي كل الأحوال سيكمل قطار حياتك طريقه، فاجعله طريقًا ذا معنى، ولا توقفه لرثاء محطات جانبية، متغافلًا عن كل ما خُلقت لأجله، وإن اختارك العَنْس، فكن له كالناقة العَنْس في قواها والصخرة في صلادتها والعُقَاب في أنفته وقوته، فكن المعنى الحقيقي للعَنْس.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 516
مقال يساعدك على فهم حقيقة العنس
link https://ziid.net/?p=63803