عن كل الأشياء التي نعرفها من الروايات
في البداية ابتدع الإنسان الحكاية على سبيل المرح، فتناقلتها الألسنة فأصبحت أكثر جدية، ثم حولها الزمن لحكايات عنا ولكن أقل مرحًا.
add تابِعني remove_red_eye 11,914
الرواية بالنسبة لي تمثل كنزًا ثمينًا، فبرغم أن الأغلبية تنظر لفنّ الرواية على أنه فن تافه وسطحي، إلا أنه في الحقيقة الشاهد الأول على تطور المشاعر والتجارب الإنسانية، مؤرخ شاعري يرصد الأحداث بعين عادلة، ويكتب عن الصراعات وكأنه محلل نفسي مخضرم، الروايات نهر ممتد تتمازج به المعرفة بالخيال، وعندما نتذوق ماءه العذب لأول مرة، لا نتوقف عن طلب المزيد
دوريس ليسنج عن الكتابة والكُتّاب
تعلق الكاتبة والروائية البريطانية دوريس ليسنج، في كتابها البديع (سجون نختار أن نحيا فيها): إن المرء حين يكتب عن مشكلاته وآلامه وأفكاره الاستثنائية فهو يكتب عن الآخرين أيضا، فالأمر لا يتمحور حول تجربة ذاتية فقط وإنما تجربة جماعية.
من كتب دوريس عرفت الانقسامات التي تشرخ الجماعات، هوس الشيوعيين بعالم مثالي، لا ينفك يتحقق بشكل كارثي، عرفت آراء مختلفة عن التمرد والخضوع بشكل قسري إلى المرجعيات دون تفكير، كيف يمكن للآخرين أن يتلاعبوا بعقلك دون حتى أن تدرك؟ أن نكون بلداء وقساة عن عمد، لدوريس أسلوب جاف في بعض الأحيان ولكنه ثري، وواضح بشكل أنيق.
فبرغم أن ليسنج فازت بجائز نوبل، وعدد واسع من الجوائز فإنها تكره التنافسية بين الكُتّاب، وتشجع الكتابة الحقيقة النابعة من الذات دون الالتفات إلى أي شكليات حمقاء.
إيريك فوتورينو وسينما الضوء
في عالم يشمله الضوء والظل، أحلام زرقاء، وجوه محادية وفاتنة، عدسات كبيرة بضوء حارق، علمني الكاتب الفرنسي فوتورينو في روايته (قبلات سينمائية) الكثير عن شوارع فرنسا الليلية، مقاهيها الصغيرة، مطاعمها المنمقة التي تقدم حلوى لذيذة وحُبًّا رقيقًا، والكثير من الأفلام الجميلة التي أصبحت في قائمة مشاهدتي، والأكثر أنه أهداني رحلة تتعارك فيها الذات بحثًا عن نفسها، حتى تصل أخيرًا إلى مستقرها.
نيكوس كازانتزاكيس صديقي نحو المعرفة
منذ ثلاث سنوات قرأت بالصدفة لكازانتزاكيس ومنذ ذلك الحين أصبح كاتبي المفضل، فرواياته مثل (الإغواء الأخير للمسيح) و(المسيح يُصلب من جديد)، كانت مدخلًا لمعرفة الدين المسيحي عن قرب، أما رواياته الأخرى (كالحرية أو الموت) التي عرفتني على أحداث لم أكن أدري بوقوعها كحرب كريت، وكيف كان شكل الجزيرة تحت الحكم العثماني، شكل الأفراد والسلوك الجماعي، الحب والجوع، والتوق المميت إلى الحرية، فالحرية أو الموت كما يقول العجوز سيفاكس .
ما بين أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية
من الرواية تعرفت على الخريطة الجغرافية للعالم، احتلال تشيكوسلوفاكيا في الثلاثينات من القرن الماضي من قبل ألمانيا النازية، انهيار الاتحاد السوفيتي، ثورات أوربا الشرقية، القتل الممنهج لأفرادها، نزوحهم نحو النمسا، سويسرا وفرنسا وغيرها من البلدان، علمني كونديرا الأسماء، بينما مزقت أغوتا كريستوف عيني بالأحداث العنيفة في ثلاثيتها (الدفتر الكبير، الكذبة الكبيرة، أمس) والتي مرت بها أثناء نزوحها من المجر.
ما بين أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية مسافة شاسعة، ولكن المعاناة تكاد تكون متشابهة، إلا أن معاناتهم حارة مغمورة بالمشاعر والسخط والصراخ، هذا ما يميز أدب أمريكا اللاتينية بأنه مفعم بالحياة حتى عند الألم.
مع إيزابيل الليندي ذقت الطعم المالح لساحل الإكوادور، التمرد الأول عن النظام الأبوي، وتعلمت أن الثورة وليدة غضب مكتوم، وأنها في نهاية ستجعلنا نفقد من نحب، ومهمتنا أن نحميهم من النسيان، كما كتب إكتور أباد فاسولينسي، في روايته (النسيان) التي من رأيي أنها أمتع علاقة أبوية قد عرفتها.
في أمريكا اللاتينية ستعرف عن الإنسان بزخم أكبر، وذكاء أوسع، فماركيز على سبيل المثال في رائعته مائة عام من العزلة، أدهشني بترابط الأنساب بتلك الطريقة، كيف سار الزمن بتلك البساطة وحملك معه، حتى تركك مشدوهًا تبحلق في الفراغ.
الفلسفة كحكاية بدائية
في سنواتي الأولى بالجامعة، رشحت لي صديقتي رواية (عالم صوفي) كانت أولى قراءاتي لمعرفة ماذا تعني فلسفة، تعرفت على الكثير، وكان جوجل مساعدي الأمثل لمعرفة المزيد عن تلك الأسماء الغريبة، انتهيت بعد عدة أيام وأنا أصرخ من الفرح بأني أريد أن أدرس الفلسفة، كانت الرواية ممتعة للغاية، ذكية وأخّاذة، طرحت في عقلي آلاف الأسئلة وتركتني أبحث وأبحث وهدتني إلى كتب كثيرة بلهجة أكاديمية جافة، توضح لي ماذا تعني فلسفة.
الروايات هي بوابتنا الرحيمة تجاه العالم، تأخذنا بلين لتعرفنا على الحب والقسوة، والهلع وعلى كل الكلمات الكبير كالحرية والرأسمالية والبروليتاريا والتي لم أكن أعرفها إلا من خلال قراءاتي للأدب الروسي.
فأنا لم أسافر خارج بلدي قط، وبرغم ذلك أعرف أسماء الأشجار التي تزين بعض المناطق في اليابان وأشعر بالرقة التي تتساقط بها أوراقها، ومن هنا ستسمر الروايات لتكن ملجئي ومعلمي الأول دائمًا.
إليك أيضًا:
add تابِعني remove_red_eye 11,914
مقال ملهم حول الرواية
link https://ziid.net/?p=73087