جري الوحوش: هل الزمن ضحية لما وصل إليه الإنسان أم العكس؟
في زمن سادت فيه "وحوش" العقول، التي تمكنت من التلذذ بفريستها وسلبها نبض وعيها، يكفينا ما فقدنا والآن هي اليقظة.
add تابِعني remove_red_eye 901
“جري الوحوش” بعد أن كانت مجرد جملة عابرة نلجأ إليها حينما نود أن نضرب مثلًا بها، أصبحت هي عنوان العصر الحالي، زمننا هذا الذي ننغمس به دون أن نجد الإجابة على السؤال الأكثر غموضًا: هل ما نحن به من تداعيات الزمن أم أن الزمن ضحية لما وصل إليه الإنسان؟
وفي البداية نحسب أن ما نحن نعاصره ما هو إلا طبيعة الزمن التي تزداد توحشًا أكثر فأكثر، مع تعاقب اللحظات، ونحن الفريسة له، ولكننا سرعان ما نجد أننا قد أخطأنا الظن وأن زمننا هو الفريسة الحقيقية لما يجده منا نحن بنو البشر، فالإنسان هو مصدر الخير والشر، البناء والخراب، الحب والكره، هو مصدر التناقضات إن أردنا صدق التعبير، فكيف لنا أن نلقي اللوم على زمننا الذي لم يفعل شيئًا سوى أنه وقف أمام أفعالنا مصدوما؟ فقط.
منذ بداية الحياة والإنسان يسعى ويهرول نحو القمة، يريد أن يكون الأول في كل شيء، وحتى إن كان الأول في الشر، لا يهمه الأمر بقدر أنه يهمه أن يحظى بالمرتبة الأولى وإن كانت على حساب إنسانيته، يكفيه من كل هذه الرحلة أن يقتنص منها الجائزة الكبرى، نظرات العلو في أعين الخلق، يراهم يفتقدون القوة لكي يصلوا إلى ما وصل إليه من جاه أو سلطان أو شهرة، هو يتلذذ بنظراتهم هذه، وكأنه ينتظرها أكثر مما ينتظر المقابل من منصبه هذا، يتغير بهذه النظرات ويتبدل من المغمور ولكن بإنسانيته إلى المشهور ولكن بفقر نفسه.
تراه متوهجًا تشع منه أنوار الفخامة والـ”شياكة” والـ”وجاهة”، ولكنه في الخُلُق عدم، ثيابه التي تكفي وأن تفيض على البشرية بكنوز اللؤلؤ والمرجان هي في الحقيقة بالية رثة، وإن كانت في نظره ثياب الملوك والأمراء، حسب أنه كذلك وكانت حساباته خاطئة وكانت هي المرة الأولى والأخيرة في تاريخه التي يخطئ، فهو الخطأ الذي لن يقوى على محوه أو الاعتذار عنه وإن أعاد كتابة تاريخه من جديد.
الآن ..
وبعد عصور “الجاهلية” المنقضية، عدنا إلى عصور جاهلية أخرى ومن نوع خاص، وكأننا استقلينا آلة الزمن في رحلة لن نعود منها كما كنا، بل هي رحلة لا عودة منها من الأساس، الجاهلية التي حسبنا أنها سميت بهذا الاسم نظرًا لخلو عصرها من وسائل التقدم والمعرفة والتكنولوجيا، ولكن الجاهلية هو الاسم المعبر عما نعيشه الآن وبحق، وهي الصدمة الكبرى، فكيف بهذا الكم الكبير من التقدم والرقي نقع في حفرة من حفر الزمن ويصبح هذا التقدم هو طعنة الغدر الأولى بنا؟ ومن المفترض أنه منقذنا من هلاك الحياة، تبدل إلى قاتلنا الأجير وأخذ يقتص منّا وكأننا العدو الأوحد له.
أصبحت إنسانية الفرد منا على حافة الانهيار، وبعد أن كانت كنزه الذي يفتخر بيه بين الأمم ويغدو في الأرض رافعا رأسه بها وإن كانت هي كل ما يملك في سبيله، أصبحت أقل من أن تذكر أمام أسطول عرباته وقصوره وأمواله، فقد ميز “الفاني” على “الباقي” وأصبح بهذا التمييز “الهالك”، ولكن قد يتساءل البعض منكم.
- ما العيب في أن يسعى الإنسان ليحقق طموحه ويُصقله بالنجاح والشهرة والتميز فيما يفعله ؟
- ما السبب لهذه المُحاكمة غير العادلة ونحن مأمورون بعمارة الأرض وترك البصمة والعلامة بها؟
ولكن شتان بين هذا وذاك، فهل يستوي من أراد سعيًا صالحًا وكانت هديته من الله أن ينال النجاح والتوفيق والرزق الواسع، وبين من وصل للقمة بخداع البشر ونشر الـ”التفاهات”؟ لك الإجابة يا صاحب السؤال.
الكثير من عمليات النصب والاحتيال الآن لم تعد تنصب على سارقي البنوك أو أصحاب الأعمال المشبوهة وفقط، بل على من تمكن بعقول الجيل بكل الطرق والوسائل وسلب منه وعيه وفكره وقيمه، سواء كان هذا السلب من خلال الكلمة أو الحركة أو الفكرة التي ينشرها، أصبحت وسائل التواصل هي الوعاء الذي يصب فيه ألاعيبه المُتقنة، وكأنه يقوم بعملية تنويم مِغناطيسي لكل من تقع عينه عليه وذلك في سبيل حصد أكبر مكاسبه الشيطانية، من أجل نيل شهرة باطلة وقمة حتمًا تنهدم على رأسه يومًا ما، فلا مفر من العقاب وإن غاب الدنيوي فتكفيه محكمة الآخرة، ويبقى السؤال: مَن الجاني في هذه الحالة؟
- هل الجاني هو من وضع خطته بدقة عالية حتى لا يُكشف ولا تزل أقدامه من على أرضه التي ثبتها على أساس الهيافة؟
- أم الجاني هو من سلم عقله وكيانه لمن كان له الفخ الأكبر؟
- أم أن الطرفين مُذنبان؟
كيف لنا أن نعلم سبيل الحقيقة والوضع يزداد سوءًا يومًا بعد يوم؟ كيف تمكن منا هذا المرض اللعين دون أن نجد له الدواء لكي تتخلص عقولنا منه قبل أن يتفاقم ويقضي علينا؟ سرطان العصر الحالي وما أدراكم ما هي عواقبه إن لم ننتبه له بكل قوانا، فقد أصبح نيل الشهرة أسهل من شربة الماء، ولكن مقابل هذا هو إنسانيتنا التي لن نحتمل أن نراها يُراق دمًا لها ونحن مُقيدون أمام هذا الوحش الكاسر الذي سيطر على كيان الكثير منا.
إِذًا فاليقظة هي الحل، الوعي هو الدواء لكل ما يحاول جاهدًا أن يُلقي بنا إلى الهاوية ويُعيدنا إلى عصور الجاهلية التي انتهت منذ دهور، ولكننا قد عدنا إليها بكل سلاسة فقط بأننا مكنّا عدونا الأول منا، عدو الفكر والقيمة، عدو لن يهدأ له بال إلا بنهش ما تبقى من إدراكنا، يُلقي شباكه ويحكم قبضته على فريسته ثم يهرب وإن كشفنا أمره يتحجج بأنه لم يفعل شيئًا بل نحن من سلكنا دربه بصدر رحب.
فكم ممن بنى شهرته على التخريب؟ كم ممن ذاع صيته على تدمير القيم؟ كم ممن سلك سبيل العظماء وهو لا ينتمي إليهم مهما حاول أن يفعل؟ فقط يُهرول من أجل الخراب، يجري “جري الوحوش” التي لا يهمها سوى الاقتناص واللذة الوقتية، منافسة من أجل كسب أكبر عدد من الفرائس دون أن يمدهم بأي معروف سوى أن ينتشر داخلهم وينغمس في لحمهم ويصبح مثله كمثل دمهم وأقرب الأقربين إليهم، ثم يُلقيهم إلى سجن الهلاك سجنًا مؤبدًا ويتركهم دون ذرة شفقة على حالهم.
فهل نفيق من غفلتنا هذه ونتيقن أن ما نحن فيه يحتاج إلى القليل من الوعي حتى نحيا بالكثير من الإنسانية؟
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 901
مقال مثير وملهم حول حياة اليوم وحالة الجري المستمرة التي تسير بها حيواتنا
link https://ziid.net/?p=80518