ثمرة من كتاب “التلميذة الخالدة”
هاجرت من مسقط رأسها واستحقت نوبل مرتين. زهدت فارتفع اسمها على الدنيا. الحب بينها وزوجها كان دافعها. هي ماري كوري ضحية اكتشافها.
add تابِعني remove_red_eye 1,263
سيرة عالمة فيزياء وكيمياء، هي ماري كوري التي عاشت آخر القرن التاسع عشر الميلادي وأول العشرين، واشتهرت باكتشاف عنصر الردايوم المشع. الكتاب ألفته ابنتها إيف كوري، وترجمه أحمد الصاوي محمد، الطبعة الثانية في عام (2004م) من الشركة الدولية للطباعة والتنفيذ بالقاهرة. كتاب مؤثر حي تُرجم إلى لغات عدة.
بكلمات تنفذ إلى القلب في مقدمة الكتاب، لخصت مؤلفة الكتاب شخصية أمها.
ومما قالته:
إن شيئًا في ماري كوري كان أندر من عملها، رفضت أعراض الدنيا وأموالها والمزايا التي يحصل عليها أمثالها.
وختمتها بقول العالم آينشتين:
إن ماري كوري من بين جميع المشهورين، هي وحدها التي لم يفسدها المجد.
ولدت في (1867م) من زواج موفق لوالدين متحابين منسجمين. كانت مانيا الصغيرة -التي صارت ماري لاحقًا- أصغر أخوتها، تصرفها المطالعة عن كل ما يجري حولها فكانت أوفر أترابها معرفة وتتم واجباتها قبلهن. عرفت قسوة الحياة في سن مبكرة بعدما ماتت إحدى أخواتها وأمها. دخلت معترك الحياة وأيقنت أنه يحسن البعد عن بولندا وأعمال قيصر روسيا الانتقامية فيها، بعدما أُبعد الوطنيون أو اعتُقلوا جماعات، وأُخذت ممتلكاتهم، وأُبطل استعمال اللغة القومية. فابتعدت ماري عن الطغيان الروسي وعمن وصفتهم بأنهم “أبطرهم الغنى وأفسدهم الثراء”. ولعل ما زادها زهدًا في مسقط رأسها أن خطبها ابن بِكر لأسرة ثرية عملت ماريا مربية لديهم، لكن جاءه جواب خاطف من أبويه باستحالة زواجه منها. في لحظة قامت الحواجز الاجتماعية وضعف الطالب أمام أهله وانهار عزمه فتركها.
عرفت ماريا الحال في فرنسا حيث “يعِزون الحرية ويحترمون كل المشاعر وكل المعتقدات”، فرحلت إليها وتجنست. وقالت عن نفسها: “كان الأدب يشوقني. شيئًا فشيئًا وجدتني آخر الأمر أتجه نحو الرياضيات والطبيعة”. في باريس بدأت دراستها فكانت تقصد ملجأ تحبه وهو المكتبة، ومنها إلى مسكنها لتضيء مصباحها الزيتي حتى الثانية صباحًا. ويندر أن تدخل مطعمًا فهو كبير النفقة. فظلت لا تأكل غير قليل من الخبز المدهون بالزبد وتشرب الشاي، حتى تحولت الى فتاة هزيلة سقيمة. لكنها كانت تستند الى إرادة حديدية وصبر ثابت. حصلت على شهادات في الطبيعة ثم في الرياضيات آخر القرن التاسع عشر.
أرسلت مرة بكلمات رائعة إلى من بقي من أخواتها تقول: “إن المرء موهوب في شيء ولا بد من بلوغه مهما يبذل في سبيله، فلعل الرياح تواتينا بما نشتهي لحظة يعصف اليأس بسفينتنا”. وفي رسالة أخرى كتبت لها عبارة أخرى ملفتة: “علينا في العلم أن نهتم بالأشياء لا بالأشخاص”، تصلح قاعدة لكل طالب وباحث وعالم، بل لأي انسان.
في فرنسا تزوجت ماري من بيير كوري، باحث مثلها، فإذا “الحب يستل للإنسان علمًا مجيدًا” كما وصفته ابنتهما. وظهر العالم الطبيعي العظيم إلى جانب العالمة، رفيقًا حميمًا لحياتها. واستقر الزوجان الشابان في شقة صغيرة. لم يكن لديهما وقت، واتفقا على إلغاء الاجتماعات والزيارات! وكانا يوقّعان رسائلهما معًا. تقرأ رسائلهما إلى الأكاديمية فتجدها كلها موقعة منهما معًا: “إن واحدًا منا رأى… وواحد منّا أثبت… ونحن نقترح…”. تقول إيف ابنتها: “جمع بينهما الحنان القلبي والهوى العقلي”. كتبت ماري مرة لأخيها: “ولم يحدث خلال السنة كلها، أن ذهبنا الى مسرح تمثيل، أو حفلة موسيقية، أو قمنا بزيارة. زوجي خير زوج يمكن أن تحلم به امرأة”. يبدو أن الحب الصادق والاتفاق التام والتعاون الجميل هي الدوافع وربما أغزر الروافد في حياة ماري كوري وزوجها ونبوغهما.
أهدتهما النمسا طُنّا من خام البتشبلند (اليورانينيت) فحضرت منه ماري الراديوم النقي في أول القرن العشرين. ثم كانت أول امرأة تنال جائزة نوبل، وتنالها مرتين، وأول امرأة تعين وتُطلب في مناصب علمية مرموقة في فرنسا وخارجها ويُحتفل بها حيث حلت، حتى في البيت الأبيض الأمريكي. عندما بدا الناس في ملاحقة الزوجين، حُرما “الكنز الوحيد الذي يتمنيانه وهو الهدوء!” كما قالت ابنتها، ثم أكملت أنهما كانا يهربان من باب خلفي على الدراجات نحو الضواحي والغابات. تقول إيف عن أمها العالمة الزاهدة أنها كانت دائما “تلازمها فكرة المواهب المجهولة، فقد يكون مختفيًا وراء هذا الفلاح، أو ذاك العامل: كاتب أو عالم أو مصور أو موسيقار. في أكواخ الفقراء كنوز نادرة خفية”.
تتلخص عظمتها هي وزوجها في إحدى رسائلها: “الراديوم سيُستخدم في مصلحة المرضى، فيبدو لي أنه من المحال أن نكسب من وراء هذا. لقد قرر بيير كوري، بالاتفاق معي، ألا نحصل على أي نفع مادي من اكتشافنا فلم نسجله. وقد نشرنا، دون تحفظ ما، نتائج بحوثنا، وكذلك طرق تحضير الراديوم”. وفي (1932م) يتوج العمل المشترك لماري كوري وأختها برونيا دلوسكي، فيفتتح رئيس جمهورية بولندا معهد الراديوم لترى ماري بولندا (المحررة من روسيا) ومسقط رأسها لآخر مرة.
أجهضت ماري فلم تترك سوى ابنتها إيف مؤلفة الكتاب. عاشت عقودًا وسط انبثاقات الراديوم وإشعاعاته. تقول ابنتها: “نجد بعد وفاة بيير وماري كوري بزمن طويل أن كراسات مذكراتهما مازالت متأثرة بهذا التفاعل الخفي الإشعاعي”، كان الإشعاع في حياتها في كل مكان. زوجها بيير لم تطل معاناته مثلها، ومات قبلها مصابًا في حادثة. عاشت ماري آخر عمرها مصابة بأوجاع والتهابات وحروق تجف تارة وتتقيح أخرى. وأنبأها الطبيب أن “كتراكت” (إظلام عدسة العين) سيصيبها قليلًا قليلًا. كتبت إلى أختها: “ضعف بصري، أما أذناي فان دويًّا يلح على، وربما كان للراديوم دخل. هذه هي آلامي فلا تحدثي بها أحدا”. وإلى ابنتها إيف: “حبيبتي. ستعمل لي عملية. عليك أن تقولي لأصدقائنا أقل ما يمكن أن يقال”. وعملت لها عمليات. ولم تكد تخلص من الضمادات والأربطة حتى راحت تستخدم عينيها الجريحتين، واتخذت نظارات غليظة.
أمضت ماري كوري خمسًا وثلاثين سنة تتعرض للأشعة السينية (إكس). ثم ماتت عام (1943م) في باريس، وكان التشخيص، فوق ما عانت منه، فقرَ دمٍ خبيث سببه أن النخاع العظمي لم يعد يعمل لشدة ما أصيب من تراكم الإشعاعات.
تلك ثمرة من ذلك الكتاب الجميل عن سيرة عجيبة فيها عبر وتشجيع ومتعة.
اقرأ أيضًا:
add تابِعني remove_red_eye 1,263
مقال ملهم حول العبقرية ماري كوري
link https://ziid.net/?p=72845