“لدي كدمات زرقاء في روحي”.
الأديبة الفرنسية فرانسواز ساغان
كم مرة ذهبت فيها إلى فراشك وأنت تجاهد وحدك لوقف النزيف الذي يصفيك دون أن يراه أحد؟ قبل أي شيء، يجب أن تدرك جيدًا أن من يستمر في خلق الجراح داخلك ليس حبيبًا أو صديقًا، ولا يصلح لأن يكون بأي شكل من الأشكال في دائرتك المقربة. حينما تأخذ الأشياء مسمياتها الصحيحة، ستكون قد قطعت نصف الشوط نحو سلامك النفسي.
ما التنمر غير الصريح؟
هو صيغة أكثر ذكاء وفاعلية للتلاعب بمشاعر الآخر، دون ترك دليل صريح يدين صاحبه. ربما يكون أقوي تأثيرًا، وأشد خطورة من التنمر الصريح المعلن. ففي التنمر الصريح لهجة عدائية واضحة، ونبرة واحدة غير متخفية تسهل عليك أخذ موقف حازم تجاهها. أما التنمر غير الصريح فيحدث تشويشًا عظيمًا داخل أفكارك، ومشاعرك، ليتحيّر عقلك في ترجمة إشارات تلك اللغة المسمومة المبطنة بالعسل. مثلًا كأن يغلف لك صديق نقطة من نقاط ضعفك يعرفها جيدًا فيك، بدفعة من المزاح اللطيف.
ما مواصفات فريسة المتنمر؟
المتنمر شخص ذكي للغاية ولاعب متمرس، لن يجازف بمغامرة غير معلومة النتائج فهو يختار:
- الشخصية الحساسة التي في أغلب أحوالها ستلوذ بالصمت أثناء مناوراته عليها.
- الشخصية الضعيفة، غير القادرة على اتخاذ أي رد فعل مهما بلغت درجة الإساءة.
- الشخصية التي لا تؤمن حدودها.
لا يختار المتنمر أبدًا شخصية قوية يمارس عليها نقصه لأنه وبكل بساطة (صنف يخاف مايختشيش).
كيفية التعامل مع تلك النوعية من المتنمرين؟
- أن تعرف كيف تؤمن حدودك جيدًا.
- أن تكون منصفًا تجاه نفسك، فلا مجاملة لقريب أو حبيب على حساب ألمك الشخصي.
- أن تأخذ رد فعل سريع، قاطع ورادع، وهذه هي النقطة الأهم.
وفي كل الأحوال لن يتقبل المتنمر رد فعلك المستحدث، لأنك ستحرمه من ممارسة نقصه، وستفسد عليه متعة تواجده على حسابك.
لن يقبل أن تُنتهَك حدوده النفسية برد فعلك المضاد.
تقول صديقة لي وهي تحكي عن قريبة لها:
“أصبحت منطوية ووحيدة، أخشي التجمعات، وأخاف حتى أن أكتب على فيس بوك أو تويتر. اختفيت من كل شيء، ومَحوْتُ أثرى من كل مكان، وكم أراحني ذلك الاختباء.
فما من مرة كنت في تجمع للعائلة إلا وأقامت قريبتي حفلة على شرفي، مستخدمة في ذلك كل وسائل الإيذاء الممكنة بكل ما تعرفه عني من معلومات، لتسخر وتقلل مني أمام الآخرين وكل ذلك تحت مسمى المزاح والضحك.
حتى على فيس بوك كلما كتبت شيئًا، لم تكن تترك مجالًا لتساويني بالأرض أمام الجميع إلا وتفننت في فعل ذلك، بعد أن تجمل تعليقاتها بسيل من إيموشنز المزاح اللطيفة للغاية. وحينما كان يأتيني إشعار من فيس بوك بأنها قامت بالتعليق عندي، كنت أضع يدي على قلبي مما سأراه منها”.
صديقتي التي اختارت الوحدة والعزلة، وحرمت نفسها من مواصلة العيش بطريقة سوية بين أحبابها أقرت لي: “لم يطاوعني قلبي أن أقوم برد فعل قاطع تجاهها، فأجرحها، أو أخسرها للأبد” ولما سألتها “هل يستحق أحد أن تبتري جزءًا من حياتك لأجله، وهو بالفعل لا يتوانى عن سلخ أجزاء حية منك؟”
أخبرتني وهي تبكي أن الأوان قد فات لاتخاذ رد فعل، لأن آلامها لن يمحوها أي رد فعل. ربما يشرح مثالي الأثر النفسي البشع الذي يخلفه ذلك النوع من الأذى على المدى البعيد، الأثر الذي يبدأ مجرد نقطة صغيرة، ليستحيل مع الوقت تشوهًا رهيبًا يستعصي على العلاج.
أريد التنويه بنقطة بالغة الأهمية استخدمتها لفترة من الفترات ولم تجد أي نفع بهذا الصدد.. وهي “التجاهل” كحل لتلك المشكلة.
كان لدي في محيط معارفي شخصية حادة هجومية، لا يسلم أحد منها. ورغم إقامتي لحدود محكمة من حولي إلا أن ذلك الشخص كان دائمًا يجد ثغرات خلالها. وبحكم القرابة والمودة القائمة كنت أتعامل مع انتهاكاته بتجاهل مطلق، حفاظًا على سلامي وعلى إطار العلاقة بيننا. ولكن مع تكرار تجاهلي في كل مرة كانت جرعة الانتهاك التالية تتضاعف حدتها. حتى أتت مرّة فاق خلالها سقف توقعاتى إلي حد لم يعد يصنع تجاهلي حياله شيئًا. فقمت بأخذ رد فعل شديد اللهجة.
بعد ذلك الموقف صنع رد فعلي جدارًا عازلًا منع عني أيّ أذى يصدر عنه. صحيح أنه اعتبر دفاعي غير مستحق، وسجله في تاريخه هجومًا وتكسيرًا لأسس العلاقات القويمة. وسار من خلف ذلك الجدار يندد بين معارفنا المشتركين بالكبرياء الزائف الذي أعيش فيه، وغيره من كل صور التشويه لشخصي. إلا أنني لا يهمني شيء في سبيل حماية حدودي ما دمت لا أجور على حق أحد، ولا أحاول صنع سلامي على أوجاع الآخرين. وأقولها ألف مرة “ليس إنسانًا من ينغص سلام إنسان آخر بدم بارد، وبتبجّح مطلق.. وخسارته في الأصل هي طوق نجاة”.
إليك أيضًا
مقال يشرح معنى التنمر غير الصريح وكيف يكون تأثيره على النفس
link https://ziid.net/?p=64024