رسالةٌ مفتوحةٌ إلى رسولِ الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-
في معارك الحياة .. تحتاج أن تتوقف لتتذكر سيرته وتناجيه..إنه القدوة والسند والمحبة.. إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
add تابِعني remove_red_eye 922
السلام عليكم ورحمة الله .. وصلى الله عليك ياسيدي وقدوتي..أجدُ الكلماتِ صعبةً وأنا أستحضرُ شخصيتك العظيمةَ ورحلة الصبرِ والثباتِ والتفكُّرِ والدعوةِ التي خضتها منذُ أن كنتَ طفلًا إلى أن توفاكَ الله حينَ اخترتَ جواره. ما كانت حادثةُ المَلَكينِ حين شقَّا صدركَ الشريفَ مجرد قصةٍ عابرةٍ، بل كانت جراحةً ربّانيةً لإعدادِ قلبك للرحلة الطويلة، وخاصةً لطفلٍ كريمٍ فَقَدَ والديه ليكونَ ثابتًا قويًّا لا تكسرهَ الأيام.
لا أدري من أينَ أبدأ وكيفَ أنتهي، لكني أودُّ أن أصارحكَ أولًا أننا تغيَّرنا كثيرًا عما كنت عليه أنت وأصحابك. والحقيقةُ أنه ليس كل تغيرٍ أنتَ ترضاه، لكنها هي الأمةُ تنفعل مع الأحداث حتى يبينَ الخبيثُ من الطيب من أتباعك، فمنَّا من تنتظرهم على الحوضِ لتلك الشربةِ الهنيئةِ التي لا ظمأ بعدَها، ومنَّا من تدفعُهُم الملائكةُ لأنهم غيَّروا المنهج من بَعْدك. لذلك .. اقبل مني يا سيدي هذه الكلمات.
عرفتك –من كتبِ السِّير والحديثِ– رجُل المواقفِ والمبادئِ والدعوةِ والصبرِ والجهادِ، ثلاثَ سنواتٍ قاسيةٍ مع زوجتك الودودِ خديجة، كانت كفيلةً بأبناءِ قبيلتك وأتباعِك أن يأكلوا ورقَ الشجر ويلعقوا الجلود، لكنك صبرت. عاداك قومك وأخرجوك حتى كنت تتعجب من ذي قبل (أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ)، لكنك صبرت. أوذيتَ في نفسكَ بالحجارةِ وسَلَا الجَزورِ والهجاءِ وأنواعِ التُّهم، لكنك صبرت. أوذيتَ في بناتكَ وعِرضِ زوجتك البتول، لكنك صبرت.
قُتل أحبابكَ وأصحابكَ بين يديك ومنهم عمُّك حمزة بن عبد المطلب، لكنك صبرت. قُدتَ جيوشَ المسلمين في حروبٍ قاسيةِ حرًّا ومفازةً حتى كُسرت ثنيَّتك وسقطت مضرَّجًا بالدماءِ، لكنك صبرت. عَبدتَ الله شاكرًا مُحتسبًا قائمًا حتى تفطَّرت قدماكَ وأضناك التعبُ، لكنك صبرت. أي صبرٍ ذاك الذي ذقته وأيُّ ثباتٍ ذاكَ الذي التزمتهُ حتى أقمتَ علينا الحُجَّة أن نسيرَ على نهجك تأسيًا بك (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) حتى باتت محبةُ اللهِ مقرونةً باتباعِ نهجك (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
أعلمُ أنكَ مشتاقٌ لنا (وددتُ أنِّي لقيتُ إخواني)، فوالله لشوقُنا إليكَ عظيمٌ وحُبنا لكَ كبيرٌ، فلكَ يا سيّدي كل الحبِّ فداءً لأنفسنا وأهلِنا ووالدينا والناس أجمعين. لكني أخافُ أن أعرضَ عليكَ بعضاً ممّا أصابنا بعدَ رحيلك فيضيقَ صدركَ على أمتك، ولولا أنِّي أعلمُ وعدَ الله لك (إِنَّا سَنُرضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلا نَسُوؤُكَ) لما ذكرتُ شيئًا، إلا أن يرحمنا الله ببركة دعائك فيُصلحَ حالنا إلى ما يسرُّك. فهاهم يا سيدي أخطرُ مرضين أصابانا فتغيَّرنا فيها عن نهجكَ وسيرتك.
يارسول الله .. يوماً كنتَ حزينًا تدعو الله (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)، ومازالَ هذا الأمر يعودُ في الأمَّة بن الفَيْنةِ والأخرى، ففي هذا الزمان أصنافٌ من أمتك –يا نبي الله– قد ابتعدت عنِ القرآنِ منهجًا ودستورًا يُنظّمُ الحياةَ بكليَّاتها في الأسرةِ والمجتمعِ والسِّلمِ والحربِ والحُب والبُغضِ والنفسِ والعقلِ والإنسانِ والكون، فمنّا من هجرَ قراءته، ومنّا من هجرَ التزامَه والعملَ به، ومنّا من هجرَ آياتٍ منه وعمل بأخرى تبعًا لهواه، ومنّا من تركَ الدعوةَ إليهِ وتعليمَه وفهمَ كنوزهِ، فحالَ أمرُنا إلى ضعفٍ وتسلطٍ للأعداء علينا (كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا).
حتى ظهرَ فينا ذاك النوعُ من التبعيةِ العَوجاءِ التي كرهتَها لنا (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وذِراعًا بذِراعٍ، حتّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ) فعمَّ الضعفُ الغالبيةَ الكبرى من مجتمعاتنا، وانحرفت فينا المشاعرُ والمفاهيمُ والقيمُ عن ذاك المنهجِ المتكاملِ الذي رسمتهُ آياتُ القرآنِ وسيرتُكَ المُباركةُ الخالدة، ولعلَّ اللهَ أن يُحدثَ بعد ذلك أمرًا رَشَدًا ترجعُ فيه العقولُ والقلوبُ إلى كتابِ الله بروحٍ جديدة. وبين هذا وذاك يا سيدي، أبشّركَ أنه لا يزالُ طائفةٌ من أمتك متحققين بمنهجكَ ملتزمين بهِ راضينَ بحُكمه (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
يا سيدي يارسولَ الله، يومًا كنت تقرأ فينا (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وكثيرًا ما ردّدت (إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ) فكانت قيمةُ الوِحدةِ في الصفِّ الإسلاميِّ ركيزةً يقومُ عليها بُنيان الأمةِ، ففي المجتمعِ تتنوعُ الأطيافُ والانتماءاتُ العِرقية والمذهبية والجغرافية والثقافية لكنّها كُلها تتلاشى أمامَ الانتماءِ الأكبرِ وهوَ وحدةُ صفِّ الأمةِ أمامَ أعدائِها في الخارجِ والمُرجفين في الداخل، لذلك .. ظهرَ فينا ذلكَ المرضُ الخطيرُ الذي لطالما نبَّهتنا عليهِ وكُنتَ تخشى أن يُصيبَ الأمَّة في زمانِك ومن بعده ..
وهوَ أن نُصبحَ شِيَعًا وطوائف وتياراتٍ يذيق بعضها بأس بعضٍ ويعاكسَ بعضها بعضًا .. تتدرَّجُ في الخَيريةِ من حسنةٍ مُفيدةٍ إلى ضارةٍ سيئةٍ تهدمُ في بناءِ الأمةِ بفأسِ أعدائِها، ولعلَ أقربَ مثالٍ لمُجتمعنا هو ما عايشتهُ أنتَ – ياحبيب الله – في المجتمع المدنيِّ إذ وُجدَ فيهِ الأخيارُ الأبرارُ والمنافقونَ الأشرار. لكنّي أبشركَ هنا أيضاً ياسيّدي أنَّ فينا ثابتِينَ مرابطِينَ لا يضرُّهم مَن خذلهم، وفينا رجالٌ على نهجِ أصحابِكَ الذينَ قالَ اللهُ فيهم (مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ رِجَالࣱ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَیۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبۡدِیلࣰا)، فأسأل الله أن يزيدَهم كثرةً وتوفيقًا وتعمَّ الوِحدةُ أطيافَ أمتكَ حتى نلقاكَ وأنت راضٍ عنا.
سنبقى يا رسولَ اللهِ نذكُركَ في سرَّائِنا وضرَّائنا، نهجُكَ نبراسٌ لنا في تربيةِ أبنائنا وتهذيبِ نفوسِنا، سُنَّتكَ منارةٌ لنا نسيرُ فيها على نورٍ وبصيرة، حُبك زادٌ لقلوبنا الضعيفة حتى تستمدَّ منكَ العزيمةَ والثباتَ والصبرَ وحُسنَ الإدارة.
أخيراً بلغنا عنك أنك قلت (ما من أحدٍ يسلِّمُ عليَّ إلَّا ردَّ اللَّهُ عليَّ روحي حتَّى أردَّ عليْهِ السَّلامَ) .. فصلاة الله وسلامُهُ عليكَ ياقرَّةَ الأعينِ، ونورَ القلوبِ، وعبيرَ المجالس، وريحانَ الأرواح، وضياءَ العقول، ما ذكركَ أهلُ محبَّتكَ وغفلَ عن ذكركَ أهلُ الغفلة.
كل عامٍ وأمَّتكَ الإسلاميَةَ بخيرٍ .. وفي عزَّةٍ وتمكينٍ .. يا رسول الله
add تابِعني remove_red_eye 922
رسالة تمس القلب والعقل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
link https://ziid.net/?p=63439