لماذا تُعتبر الكفاءة خطيرة في عالمنا اليوم؟
إذا كانت شركتك ستمنحك زيادة في الراتب دون أن تغيّر من كفاءتك، فسيتعين عليها أيضًا رفع أسعارها لتعويض النقص
add تابِعني remove_red_eye 91,100
نحن نقدّس الكفاءة. استخدام أقل القليل لتحقق أقصى ما تستطيع: التوصيل في نفس اليوم، تعدد المهام، كتابة نص على أحد الأجهزة أثناء إرسال بريد إلكتروني على جهاز آخر، وربما التحدث على جهاز ثالث. تعتبر الكفاءة أمرًا جيدًا، في حين يُنظر إلى عدم الكفاءة كتبديد للموارد.
يكمن منطق سليم خلف التفكير بهذه الطريقة. يؤكد الاقتصاديون أن زيادة الكفاءة هي الطريقة الرئيسية لتحسين مستوى معيشتنا، إذا كانت شركتك ستمنحك زيادة في الراتب دون أن تغيّر من كفاءتك، فسيتعين عليها أيضًا رفع أسعارها لتعويض النقص. إذا فعلت جميع الشركات الشيء ذاته فسينتهي الأمر بأن تراوح في مكانها: ستحتاج إلى أجور أعلى للوصول إلى الأسعار المرتفعة للأشياء التي تشتريها. لذا، إذا أردنا إحراز تقدم مادي يجب أن نصبح أكثر كفاءة.
تعمل سلاسل التوريد المبسطة وعمليات التسليم في الوقت المناسب وعدم وجود ركود في القوى العاملة على زيادة الكفاءة. إن حققنا ذلك فستتحسن جميع جوانب حياتنا أو هذا ما وعدنا به.
- بالنسبة لمصنعي السيارات الذين يرغبون في تحقيق أكبر عدد ممكن من الكيلومترات من كل غالون عبر تصميمات سياراتهم، فإن مقاومة الهواء واحتكاك الأسفلت هما عدوَّا الكفاءة.
- في عالم المال، تنشئ معظم الخلافات عند نقطة التبادل (في نقطة التبادل يلتزم كلٌّ من المشتري والبائع تعاقديًّا بالإكمال، لذا فإن الانسحاب يعد انتهاكًا للعقد ويفرض غرامات مالية).
- قبل اختراع المال، كان على مزارع البطاطس استخدام أكياس البطاطس لتجارة البيض والحليب. يذكر المؤرخ البريطاني نيال فيرجسون في كتابه The Ascent of Money أن اختراع النقود قد قطع شوطًا طويلًا نحو الحد من عدم الكفاءة، ويمكن اعتبار الكثير مما حدث في العالم المالي خلال الـ (200) عام الماضية على أنه استمرار لتلك الثورة.
القروض، على سبيل المثال، يعني أنه يمكنك التسوق لشراء البيض والحليب حتى بدون مال في الوقت الحالي. ومنذ ذلك الحين نقلت الأسواق المالية هذه الكفاءة إلى مستوى آخر. يعني إنشاء “أسواق الخيارات” أنك لست مضطرًّا إلى تحمل مشكلة شراء سهم ستبيعه قريبًا على أي حال. يمكنك فقط الوعد بشرائه ثم بيعه بالسعر والتاريخ المحددين في عقد الخيار. وبعد ذلك يمكنك تداول الخيار بدلًا من السهم الأساسي.
كل من هذه التطورات والعديد من التطورات الأخرى جعلت من السهل القيام بالأعمال التجارية دون إضاعة الوقت والجهد. وبذا أصبحت المعاملات الاقتصادية أسرع وأكثر كفاءة. من الواضح أن هذا جيد من بعض النواحي. لكن الأزمة المالية لعام (2008م) أشارت إلى أنه ربما يكون هناك الكثير من الأشياء الجيدة. إذا لم يتم تحويل الرهون العقارية والقروض الأخرى إلى أصول قابلة للتداول (“الأوراق المالية”)، فربما يكون المصرفيون قد استغرقوا وقتًا لتقييم الجدارة الائتمانية لكل مقدم طلب. إذا اضطر الناس إلى زيارة أحد البنوك لسحب النقود فقد ينفقون أقل ويوفرون أكثر، هذه ليست مجرد تكهنات. على سبيل المثال: يُظهر البحث الذي راجعه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل ريتشارد ثيلر أن الناس سيدفعون لقاء (شيء ما) ببطاقة ائتمان أكثر من الدفع النقدي.
يمكن القول: إن القليل من المعوقات بهدف إبطاء عملنا سيمكن المؤسسات والأفراد من اتخاذ قرارات مالية أفضل.
قبل عقد من الزمان، ناقشت مع عالم النفس الأمريكي آدم جرانت في ورقة بحثية بأن ظاهرة “الكثير من الأشياء الجيدة” قد تكون قاعدة عامة: بعض الحوافز تنتج أداءً ممتازًا؛ الكثير منها يؤدي إلى الاختناق. يؤدي القليل من تعاون الجماعات عن التماسك ويعزز الإنتاجية؛ في حين يؤدي فرض الكثير منه إلى الجفاء. يمكّنك بعض التعاطف من فَهْم ما يمر به شخص آخر؛ الكثير قد يمنعك من قول وفعل أشياء صعبة.
وبالمثل، في كتابي The Paradox of Choice، ناقشت أنه في حين أن حياة لا تتمتع فيها بحرية الاختيار لا تستحق العيش، فإن الحياة ذات الخيارات الكثيرة تؤدي إلى الشلل والقرارات السيئة والاستياء. إن العثور على المقدار المناسب -ما أسماه أرسطو “الوسطية”- من التحفيز والتعاون والتعاطف والاختيار والعديد من جوانب الحياة الأخرى -بما في ذلك الكفاءة- هو التحدي الرئيسي الذي نواجهه، كأفراد وكمجتمع.
الوصول إلى الوسطية ليس أمرًا سهلًا!
ذاك ما أشار إليه الشاعر الإنجليزي ويليام بليك في كتابه زواج الجنة والجحيم: “لن تعرف أبدًا ما هو كافٍ إلا إذا كنت تعرف ما هو أكثر من كافٍ”. إذا علمتنا الأزمة المالية أننا أصبحنا أكثر كفاءة في معاملاتنا، فماذا عن جائحة كوفيد-19؟ لماذا لم نخزن الإمدادات والآلات الرئيسية، أو نوسّع المستشفيات، أو نضمن متانة سلاسل التوريد لدينا؟
السبب بالطبع هو أنه كان سيُنظر إلى تلك الممارسات على أنها غير فعّالة (بل وتلتهم الأرباح). يمكن دائمًا استخدام الأموال التي يتم إنفاقها على الأقنعة والعباءات التي سيكسوها الغبار في المستودع لاستخدام “إنتاجي” أكثر في السوق.
وبالمثل، فإن توظيف عدد أكبر مما هو مطلوب في ظل الظروف “العادية”، أو صنع المنتجات بنفسك بدلًا من الاعتماد على سلاسل التوريد الدولية، كان سيُعتبر غير فعال. أحد الدروس -إذن- هو أنه لكي نكون مستعدين بشكل أفضل في المرة القادمة، علينا أن نتعلم كيف نعيش بشكل أقل “كفاءة” في الوقت الحالي.
في ضوء ذلك، فإن بعض عدم الكفاءة على الأقل يشبه بوليصة التأمين. فكر في وضعك الخاص، في كل عام لا تتعرض فيه لحادث سيارة ولا يحترق منزلك وتحافظ على صحتك، يمكنك أن تعتقد لنفسك أنك “أهدرت” أموالك على العديد من منتجات التأمين غير المجدية، وأنك ستكون كذلك ماليًّا أفضل حالًا دون دفع أقساط التأمين هذه.
معظمنا لا يحب الإحساس بأننا نهدر المال على التأمين. نفضل أن “نرتدي” هذا المال أو “نأكله” أو “نقوده”. منذ عدة سنوات وبعد صراعٍ طويل وجدالاتٍ كثيرة أقنعت والدتي المسنة بأن تستبدل وثيقة التأمين الصحي الأساسية بمنتج تأمين أكثر شمولًا. كانت مواردها متواضعة وسياسة المنتج لم تكن رخيصة. مر العام، ولحسن الحظ لم تكن تعاني من أيّ حالة طبية خطيرة تتطلب استخدام غطاء التأمين الإضافي. عندما حان وقت التجديد، قاومت والدتي، لأن المال الذي أنفقته في العام السابق قد “ضاع” بالفعل. كان ردي -الذي ربما يكون ساخرًا على نحو غير ملائم- هو أنه ربما في العام المقبل ستكون محظوظة، وستكون مصابة بمرض خطير حقًّا، وستحصل على أموال التأمين.
لحسن الحظ، في العديد من المجالات تحمينا اللوائح الحكومية من رغبتنا في زيادة الكفاءة المالية الشخصية من خلال إجبارنا على الحصول على تأمين. تتطلب القوانين أن نُؤمن على سياراتنا، ويطلب الرهن ذلك لمنازلنا. في الولايات المتحدة ، أجبر Obamacare (قانون الرعاية الميسرة الذي تم سنه في عام (2010م)، المصمم لزيادة عدد المواطنين الأمريكيين المشمولين بالتأمين الصحي) الأشخاص بشكل أساسي على الحصول على تأمين صحي، إلى أن صدرت قوانين الضرائب في عام (2017م) والتي جعلت هذا غير قابل للتنفيذ من خلال إلغاء عقوبات لعدم وجود غطاء. أظن أن الكثيرين منا يعانون من نقص في التأمين بشكل عام، لكن المشكلة ستكون أسوأ بكثير بدون متطلبات التأمين المتنوعة التي تفرضها الدولة.
إحدى طرق التفكير في التأمين، مهما كان الشعور بعدم فعاليته، هو أنه يمكننا من أن نكون مرنين ضد الصدمات التي قد تصيبنا من عالم غير مؤكد بشكل جذري. وهو حال عالمنا اليوم. كما أشار الاقتصاديان البريطانيان جون كاي وميرفين كينج في كتابهما -الذي نُشر هذا العام- Radical Uncertainty، فإن الجهود المبذولة لتحديد المخاطر من خلال ربط الاحتمالات بالعديد من الدول المستقبلية المحتملة في العالم هي في الغالب خيال علمي. العالم أكثر فوضوية بكثير من زوج نَرْد.
ماذا يجب أن نفعل في مواجهة هذا الشك الجذري؟
عند اتخاذ القرارات، بدلًا من سؤال أنفسنا عن الخيار الذي سيعطينا أفضل النتائج، يجب أن نسأل عن الخيار الذي سيعطينا نتائج جيدة بما فيه الكفاية في إطار أوسع نطاق من الحالات المستقبلية في العالم. بدلًا من محاولة تعظيم العائد على الاستثمار في حسابنا التقاعدي يجب أن نضع هدفًا ماليًّا ثم نختار الاستثمارات التي ستسمح لنا بتحقيق هذا الهدف في ظل أوسع مجموعة من الظروف المالية المستقبلية. بدلًا من البحث عن أفضل وظيفة يجب أن نبحث عن وظيفة تكون جيدة بما يكفي -مرضية بدرجة كافية- فزملاء العمل والمديرون يأتون ويذهبون والاقتصاد المستقبلي متقلب. بدلًا من اختيار أفضل كلية للالتحاق بها يجب أن نختار كلية جيدة بما يكفي.
المصطلح المستخدم لوصف هذا النهج في صنع القرار: الرضا. والرضا عن طريق التركيز على مستقبل غير مؤكد جذريًّا قد يُطلق عليه اسم: قمة الرضا. الإرضاء هو شكل من أشكال التأمين، التأمين ضد الانهيارات المالية والأوبئة العالمية ورؤساء العمل السيئين والمعلمين المملين وزملاء السكن السيئين. يمكن أن يبدو التأمين ثقيلًا مثل رجل يرتدي حزامًا وحمالات. ربما لسنا بحاجة لكليهما ولكن ماذا يحدث إذا لم يكن لدينا أي منهما؟
الخلل الحقيقي في الرأسمالية
أعتقد أن الخلل الحقيقي في الرأسمالية الذي كشفت عنه الأزمة المالية لعام (2008م) كان سعيها الجامح والوحيد للربح والكفاءة. وربما كان الخلل الحقيقي الذي ظهر في عدم استعدادنا للوباء هو مظهر من مظاهر الشيء نفسه، لا يجب أن تكون الرأسمالية إما جامحة أو منفردة. إنها ليست في مجتمعات أخرى ذات مستويات معيشية عالية، ولم تكن موجودة في جميع مراحل التاريخ في الولايات المتحدة.
لذلك ربما حان الوقت لإعادة إحياء بعض الأعراف الاجتماعية التي تعمل على إبطائنا. على سبيل المثال: إذا كان الناس يفكرون في منازلهم على أنها استثمارات مالية أكثر وأكثر كأماكن للعيش، مليئة بالمعوقات للأطفال والكلاب والأصدقاء والجيران والمجتمع، فقد يكون هناك قدر أقل من المضاربات العقارية مع التركيز على بيع وشراء المنازل فقط من أجل الربح. إذا شعرت الشركات بالمشاكل الناتجة عن كونها راعية لمجتمعاتها، فقد تبدو مختلفة في تبسيط عملياتها من خلال القضاء على الوظائف.
نحب جميعًا السيارة التي تصل إلى (100) كيلو متر مستهلكةً جالونًا واحدًا من الوقود. إن قوى الاحتكاك التي تبطئنا هي مصدر إزعاج مكلف، عندما نقود السيارة نعلم إلى أين نحن ذاهبون ونتحكم في زمام الأمور، لذلك نشعر بالسرعة الجيدة، على الرغم من أن القليل من الاحتكاك يمكن أن يمنع الكارثة عندما تواجه طريقًا جليديًا.
القيادة محفوفة بالمخاطر بما فيه الكفاية، والحياة لا يمكن التنبؤ بها مثل القيادة. لا نعرف دائمًا إلى أين نحن ذاهبون، لسنا دائما في موقع السيطرة. طبقات الجليد الأسود/الواضح في كل مكان. شيء صغير يبطئنا في العالم -المبني على عدم اليقين- الذي نعيش فيه يمكن أن يكون منقذًا للحياة. إن بناء الاحتكاك في حياتنا كأفراد وكمجتمع هو إضافة للمرونة في النظام، ويمكن أن تكون بوليصة تأميننا ضد الكارثة.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 91,100
مقال يناقش الكفاءة في عالم اليوم
link https://ziid.net/?p=68824