أولاد حارتنا في ثلاث نظرات: قراءة سريعة لرواية أثارت الجدل

ما “أولاد حارتنا”؟! وما المثير فيما جاء فيها؟ رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ ، تلك الرواية التي أثارت حولها عددا من دواعي السباب لمؤلفها من جهة، وتوجيه اتهامات الإلحاد والكفر من جهة أخرى ، وذلك لما جاء فيها من محاكاة واضحة لقصة الخلق وتناص جلي الملمس مع ما ورد من قصص النبيين والرسل وبعض المبادئ التي تمس الخطوط العريضة للمعتقدات الدينية.

قصة أولاد حارتنا

وتتلخص قصة ( أولاد حارتنا ) حول الجبلاوي الجد الأكبر وصاحب الوقف، الذي عهد بإدارته إلى أحد أبنائه وهو أدهم، مما أثار حفيظة أخيه الأكبر إدريس لأحقيته بالوقف لأنه ابن الجبلاوي البكري فقام بطرده من البيت الكبير جراء تعنته وغيظه الذي أدى إلى احتقان العلاقة بينهما ، ثم وسوست أميمة وإدريس إلى أدهم كي يطلع على حجة ميراث الجبلاوي لأبنائه من بعده حتى يضمن إدريس ظاهرياً حقه، أما الهدف الكامن وراء ذلك هو السعي وراء أن يلحق به أدهم، لكن سرعان ما انكشفت تدابيرهم وطرد بالفعل على إثرها أدهم من البيت الكبير.

وتوالى على إدارة الوقف من بعد أدهم ذريته، التي احتكرته لصالحها بعون الفتوات، على إخراس أفواه أهل الحارة بالنبابيت الغليظة ، إلى أن ظهر جبل أحد أحفاد الجبلاوي وقام باسترداده من قبضة الفتوات وناظر الوقف في تناص جلي الملمح مع قصة نبي الله موسى. ثم تمضي الرواية لنعود مرة اخرى لاحتكار ناظر الوقف لريعه، متقاسما إياه مع فتوات الحارات الأخرى التي تشعبت من حارة الجبلاوي لحمايته، إلى أن يظهر رفاعة النجارالذي يرى عيب الناس كامن وراء خوفهم من الناظر والفتوات، ويعمل على دفع الخوف عنهم فيتعرض لخيانة تودي بحياته على يد الفتوات والناظر.

حتى يعود قاسم، أحد أحفاد الجبلاوي ويعلن العصيان للناظر والفتوات كمن سبقوه، مطالبا بالتساوي في توزيع ريع الوقف على حارة جبل ورفاعة ويكون جماعة سرية تستمر في النمو إلى أن يستطيع القضاء تماما على الفتوات والناظر ويرأس وقف الجبلاوي ، ثم تتوالى حركة احتكار الوقف منقبل الناظر وفتوات الحارات الثلاث (جبل ورفاعة وقاسم) ثم يظهر عرفة الساحر الذي يدهش الحارة باختراعاته ويتهم بقتل الجبلاوي حتى يعلم حقيقة موته ثم يدفنه الناظر حيا وامرأته وتنتهي الرواية ببطش الناظر على ريع الوقف وحرمان اهل الحواري منه .

اقرأ أيضا: مقتطفات من كتاب (الأيام) لـعميد الأدب العربي طه حسين

حقيقة.. السرد القصصي للرواية لم يفته التماثل بل والتطابق في بعض اللمحات مع ماجاء في المعتقدات الدينية والأفكار المذهبية، لكن الأمر برمته ما كان ليعيب من الرواية شيئا ، إن مناهج النقد الاسطورية تفتح الباب على مصراعيه أمام التشابه في هيكل الأعمال الأدبية فيجيئ عمل في ملامحه مختلف عن عمل آخر لكنه يحمل نفس خط السير في البناء الأدبي مما يعطي العمل مساحة انزياحية تفتح مجالات دلالية متعددة للرواية بشكل خاص والعمل الأدبي بشكل عام .

هذا من ناحية ، أما من أخرى فهو عمل أقل ما يمكن أن يوصف به بأنه تجسيد لفلسفة القيم، ومحاولة لنثر بعضها على الورق وإعادة صياغتها من حيث توافرها مع قيمة الدين، بداية من جبل ممثلا للقوة ورفاعة ممثلا للحب، وقاسم ممثلا للحكمة وعرفة مثال للعلم، وعرض كل قيمة في معادلة مع الدين المتمثل فى شخص الجبلاوي، يكون ختام القصة هو النتاج النهائي للمعادلة، فإذا تطرقنا للدين مع القوة فانها يقضي الانتصار وتحقيق العدل، والدين مع العاطفة والحب اذا كان مستضعفا لا جاه له كرفاعة فإنه مندثر لا محالة، وحينما يتحالف العقل والحكمة مع الدين تكون النتيجة أن تعم المساواة وجه الأرض، وهذا ما اتضح مع قاسم أما تحالف الدين مع العلم فقد برزن صورته بقيمة عكسية وهو التعامل المنفصل بين الشيئين مما جعل العلم فسادا مدقعا.

أما تارة ثالثة فإن مرونة العمل قد تدفعنا إلى أنه محاولة ناجحة – في رأيي – لمعالجة قصص الانبياء فعلا، وإعادة قراءتها بما يتلاءم مع مصطلحات القرن العشرين للوقوف على ما سبق من قيم كي لا تسيطر على العقول فقط النزعة القصصية أو السردية ، وإن تكن ما في القراءات لهذا العمل من انتقادات صارمة ، فقد حسم نجيب محفوظ نفسه الجدال حول الرواية قاطعا أنه قام بتأليفها كرواية لا ككتاب، منوها لما في العمل الأدبي من إمكانية تطويع عنصر مثل الخيال والرمز، والبناء الأدبي لتحقيق غاية ما، لا معاملتها حرفيا كحرفية قوانين الكتب.