دير سوميلا جارة القمر، وحالة عشق خاصة
للحجر أوجاعه ورواياته، إنه جماد لكنه يحفظ عبر جدرانه تاريخ حضارة وحكايات شعوب، ما أجمل التجول بين أقدم أماكن العالم والاستمتاع بها
add تابِعني remove_red_eye 1,817
رسمت عشرين صليبًا، وما زلت كلما أرسم صليبًا تفاجئني وردةٌ بين رحيقها صليب، لا أعرف كم تبقى من وجودي لأرسم قوسًا، تربع منحنياته عشرين صليبًا، وفوقهم عشرون وردة تنبض بدفء التراتيل الإنجيلية، هناك في أعالي القمم، طائرٌ أسطوري، تستهويه الثلوج، والأدغال الغامضة، تغزل أُنثاه بجناحيها تاريخ دير عتيق، وتحفظ عن ظهر قلبٍ أسفاره، ترصد العابرين بصمتٍ، وتنحني كبرياءً لكل ناسكٍ مَرّ من موطنها، تحلق في الأعالي، موطنها الفضاءات الرحبة.
“دير سوميلا”
الحكاية التي تخفي بين سطورها عشرين حضارة، تشغل الحواس، وتستقطب عدسات ملايين من سائحي العالم، على كتف جبل عالٍ، توسدت خاصرته، مبانٍ حجرية، تُشكل آية معمارية تخطف الأنظار، تستدرج القاصي والداني تحاكي الغيوم، وتستضيف مختلف طقوس الفصول في أقاصي الشمال التركي، وعلى بعد (50) كم عن مدينة “طرابزون” وسط الشلالات والأنهار وبين أحضان الجبال والمرتفعات التي يذوب الزائر فيها هيامًا، كلما شعر بالبرد شدّ كأسًا من الشاي، يحضنه بين كفيه ليسري به نَفَس جبلي ممزوج طمأنينة ودهشة.
في الطريق إلى “دير سوميلا” لا يوجد ترقب، أو ملل، ولا يشعر السائح بمرور الوقت، كل الدروب جميلة، رطبة وندية ومختلف التعرجات منبسطة، تختبئ بين منحنياتها الكهوف، تتسلل الروائح الجبلية ثناياها، لتنعش الزوار القادمين من مختلف أصقاع المعمورة.
قد يحدث أن يتساقط المطر زخات زخات، فيندر الشعور بالحرارة لتبدأ رحلة الصعود إلى (سوميلا Sümila) الذي يبدد الغيوم بتراتيله الإنجيلية، وهي تدعو الرب أن يحفظ الأرض من كل شرّ، وتعاهد على الصمود في وجه الريح العاتية، فكم من مرة تهدمت هياكله، لتنهض أقوى وأعتى، وكم من شاعر رصد نبضها فتوغل في محرابها وأبدع، هي حالة من نوع خاص يعايشها معظم من زار هذا الدير الغائر في أعالي الجبال، أقاصي الشمال التركي.
ما إن تبدأ الرحلة إلى “دير سوميلا” حتى تبدأ الاستراحات بالتوزع بين المنعطفات الرطبة، تحت الأشجار الباسقة وهي تتمايل مع نبض الريح يمينًا ثم يسارًا، تتغزل بالعابرين، الذين تنتظرهم المأكولات الشعبية، والمشروبات الساخنة على ضفاف الأنهار، والسواقي الباردة التي تتصارع مياهها على الدوام، قادمة من خلف الجبال الشاهقة لتستقر في باطن الأرض بعد رحلة عناء طويلة.
أجواء تفتح الشهية
وموائد عامرة بالعشق المحلي للشاي والفطائر الطرابزونية صباحًا، قد يقرر العائدون من أعالي الدير تناول أطباقٍ من السمك المحشو أو المقلي أو المشوي غداءً، أو يمرون مساءً على واحةٍ غناء ليستمتعوا بالموسيقى التركية، إنه عالم غني بالمفاجآت والمسرّات. ويتأهب الزائرون صعودًا، تضيق بهم الدروب، ليستقبلهم سلم طويل من الحجارة ليصلهم ببوابة الدير، بعد استمتاع مميز بمناظر الدروب والمنعطفات المدهشة حتى نسيان الوقت، هناك امتداد ما بين الأرض والآفاق وخسارة الاهتمام بالنظر إلى الساعة أو الانشغال بالجوال، وترصد الرسائل أو الاتصالات.
وتبدأ الخطوات بالاقتراب من الصالات والغرف، قباب للرهبان، وأخرى للصلاة، ارتفاعات متفاوتة، ومُحال أن يرسم الإبداع كلمات، عندما يخص المشهد إحدى العجائب العمرانية المزخرفة بمختلف ألوان الفنون والحضارات.
تحكي الأساطير عن هذا الدير أنه كان مخبأ للسيدة العذراء، وبأنه موطن الكهنة ذات تاريخ عتيق، تم إعادة تشييده مرات ومرات، وما تزال حضارته تستقطب الأنظار، كأحد المباني التي تم إنشاؤها بين الغابات والكهوف وعلى الضفاف المائية شكل مواضيع هامة في تاريخ الاحتلال الروسي.
الفن التركي، يترك بصماته واضحة بين الردهات، وعلى جدار الغرف والساحات، بصمة تضاف لحضارات عاصرت كهوف الأديرة، تنار شتاءً بالمواقد الخشبية، ما إن يبدأ احتراق حطبها، حتى تنعكس على الجدران أروع الألوان في تمايل يروي تمازج حضارات مختلفة التصاميم والتكوين، تجعل الزائر يتأمل كثيرًا قبل أن يغادر مجبرًا لا بطلًا.
وينشغل كل زائر بزاوية أو ركن..
ينفرد في صومعة وجدانية، يغوص في عالم روحاني، بهاء ديني، وصفوة تاريخية يدون المؤرخ انطباعاته، والشاعر يحلق بفضاءات واسعة رحبة، وقد يخرج القاص بحكاية تتناقلها الأجيال، وتبقى المباني القديمة عالقة هنا بين الكهوف، أو هناك في أعالي الجبال، تغوص بين الغيوم، وتستمر الأيام وتتوالى الزيارات لدير سوميلا.
شعور رائع قد يخفق الكثيرون في التعبير عنه، لكنهم يحتفظون به صورًا أو رسومًا، وهم عائدون أدراجهم من الدرج الضيق الطويل، لتستقبلهم من جديد استراحات الغابات والمغارات العالقة وسط الطبيعة تصارع قساوتها، وتستحم بدفء شمسها مطلع كل صيف وآناء كل ربيع على مر العصور والأيام.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 1,817
مقال ملهم حول منطقة دير سوميلا في تركيا
link https://ziid.net/?p=43165