لماذا يكون الماضي أجمل؟ هذا ما تجيب عنه الدراسات
الماضي .. هل بالفعل الماضي جميل؟ماذا عن الذكريات الأليمة التي تعذبنا وتحزننا ؟ هل يمكن أن تسفيد من ماضينا أم يجب أن ننساه ونتركه ؟
add تابِعني remove_red_eye 3,278
نقش على حجر باللغة السومرية 2000 عام قبل الميلاد “ما أجمل الماضي!” ألا يذكّرك هذا بكبير السن الذي لا ينفك عن الحديث عن “الزمن الجميل” أو الزوج الذي يحب حديث ذكريات الأيام الخوالي؟
لماذا تضج عقولنا، وألسنتنا مصرة بأن الماضي أجمل؟. على غرار المثال الأول، يبدو أن لدينا انحيازًا دائمًا للماضي بوصفه أنه أجمل من الحاضر. وهذا صحيح، فالماضي هو ما يجعلك أنت. فلو استوقفك شخص في الشارع لإجراء مقابلة تلفازية، وسألك من أنت؟ فسيكون الجواب مشبعًا بالماضي: ولدت عام كذا، درست، تخرجت سافرت. الماضي قصة مثيرة نسجت فصولها بذكرياتك كل يوم، ولو أنك استيقظت في صباح أحد الأيام فاقدًا الذاكرة، ناسيًا كل شيء حدث في الماضي، فماذا يبقى منك؟
انتهى الباحث من وضع قبعة الرنين المغناطيسي على رأس المتبرع ثم وصل الأسلاك جيدًا وطلب منه أن يتذكر الماضي، فوجد باحثو جامعة “ساري” بمدينة “غلدفورد”: أن هناك مناطق تزيد فيها الإشارات العصبية بشكلٍ يبعث الارتياح، وربما المتعة إلى المتذكر. فقد وجد الباحثون أنه ليست القصص والذكريات هي التي تعيدنا إلى “الزمن الجميل”، فأيضًا الموسيقى حال سماعنا لها في الماضي، فإن مساحة كبيرة من الأعصاب تنشأ وتتحفز حاملة معها كمية كبيرة من المشاعر التي كانت تصاحبنا أثناء استماعنا لتلك الموسيقى أو اللحن أو القصيدة، وعند استماعنا للموسيقى القديمة؛ لا تنشئ عصبونات جديدة ولكن تعاد نفس العصبونات القديمة جالبة معها جميع الذكريات الحزينة والسعيدة.
على الجانب الآخر، هناك البركان الخامد من الذكريات الأليمة في الماضي. كما يحدث للناجين من الهولوكوست وهم لا يزالون أحياء، أو الجنود الذي رأوا مصارع أصدقائهم وهم في خندق واحد. فشبح الذكريات يطاردهم، وصور الماضي الأليم حاضرة في الذهن، وفي كل مرة تعود هذه الذكريات يعود لهم ما خبروه من العذابات.
وأوصى الحكماء من لديهم ذكريات مثل هذه، أنهم في كل مرة تعاودهم هذه الذكريات أن يجلسوا ليقولوا لأنفسهم: ما حدث كان مريعًا حقًا، ولكن ما هي الأشياء التي عادت علي بفائدة من هذه التجربة -ولو كانت ضئيلة- لن تكون سهلة في البداية. وهكذا في كل مرة تعاودهم هذه الآلام والعذابات يجلسون ويقومون بإنارة جانب الخير فيها (وكما يقال: لا شر محض، فلا بد أن يكون هناك خير).
وكما قال ابن القيّم رحمه الله: ما أغلق الله بابًا على عبد بحكمة، إلا فتح له بابان برحمة. ففي الأبحاث الأخيرة منها ما أكدته باحثة علم النفس باربارا فريد ريكسن: وهو أن لكل فكرة سلبية نحتاج إلى خمسة أضعافها من الأفكار الإيجابية لمزاحمتها وموازنتها في صحتنا النفسية، وذلك لأن العقل جُبل على التعامل مع الأفكار السلبية، وذلك لأنها تضرب بجذورها عميقًا في الخلايا العصبية المخية، بعكس الإيجابية فهي لا تتعمق في أدمغتنا، ولا تضرب بأطنابها إلا مسافة قليلة.
وعند الحديث عن الذكريات يأتيني هذا الهاجس وهو أنه لمدة خمس سنوات يذهب الطالب إلى الجامعة، وتكلفه مئات الآلاف، وبعد كل هذا حين يتخرج لا يبقى له إلا الذكريات، وشهادة تثبت هذه الذكريات. وبكل سهولة نستطيع القول أن الإنسان ما هو إلا ذكريات، وغير ذلك هو صورة اللحم والدم، فمنذ اللحظة التي يفتح فيها فمه ويقول: أنا، فكل ما يتحدث عنه هو الذكريات، ولو كان هناك قابس عند فصلة تتوقف الذاكرة، فمجرد نزع القابس سيتوقف عن الكلام، وينظر إلينا بعيون محدقة، ولكن لا شيء خلف تلك العيون.
والمفاجأة تكمن في أنه يمكن استنبات أو زراعة الذكريات. ففي كندا، حيث تقع جامعة ليرنتين، تمكن بريفسور الأعصاب مايكل بيرسنغر من اكتشاف عجيبة من عجائب العقل البشري، فقد استطاع عن طريق الموجات الكهرومغناطيسية تحفيز منطقتين في الدماغ البشري؛ الأولى: منطقة المشاعر والأحاسيس. والثانية: تحفيز مركز المشاعر الجديدة “الهايبوكامبس” عند تحفيز هذين المركزين بوقت واحد؛ ظهرت خبرات وتجارب جديدة (وإن كانت تغلب عليه الهلوسات)، ولكن شعر المتطوعون في هذه التجربة بأنهم بالفعل مروا بهذه التجربة في سالف أيامهم؛ مع أن كل هذه الذكريات وُلدت في غرفة المختبر!
أختم بما قالته ميشيل دي مونتين: لا شيء يُرْسِّخُ الأشياء في الذاكرة كالرغبة في نسيانها. وكثير ما نقع في فخ الرغبة في نسيان أمرٍ ما، فنحاول نسيان موقف معين، وفي كل مرة نحاول ذلك؛ فإننا نضرب وتدًا آخر يرسّخ هذه الذكريات.
الذكريات هي ما يجعل من البشر بشرًا، وبدونها يكون المرء لا شيء، ونسيان ذكرى قديمة في بعض الأحيان صعب المنال، أو يستحيل إذا كانت هناك محاولات للنسيان، والحل لا يكون بالنسيان وإنما بالتكيّف والتعايش مع ما حدث من ذكرى واستلهام القوة منها. وإن كانت الذكرى بشعة أو ساذجة، فهذا لن يغير من صعوبة الموقف؛ ولكن فقط كيف ننظر إلى هذا الزمن الماضي من نافذة العقل، وكم من إنسان ظلت تلاحقه ذكريات ضحك طلاب الفصل عليه؛ فلم يستطع تجاوزها، وكم من إنسان تجاوز محن وصعوبات لو كانت على جبل لهدّته.
add تابِعني remove_red_eye 3,278
مقال لطيف يناقش فكرة " الماضي الجميل " ولماذا يجب أن نهتم بماضينا ونقدر ما فيه
link https://ziid.net/?p=23185