العقد الفريد.. كنز من كنوز الأدب الأندلسي
والسياسة ليست حكم بالحديد والنار، والاضطهاد، فهي تحتاج إلى ذكاء، وملكة التدبير، ومراعاة الهفوات والعيوب البشرية.
add تابِعني remove_red_eye 3,704
ينصح الأدباء والمطَّلِعون في الكتابة، بأنك إذا أردت تحسين قلمك فعليك بقراءة أمهات كتب الأدب العربي، ومن أشهرها كتاب “البيان والتبيين للجاحظ”، وكتاب “بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر”، و “العقد الفريد” لمؤلفه الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي. فمثل هذه الكتب تحمل في طياتها الكثير من الكنوز النفيسة من المفردات والعبارات والصياغات الفريدة. وقد اخترت لكم من كتاب العقد الفريد، بعض النصوص التي تناولت مواضيع تمسّ واقع حياتنا، سأسردها تباعًا.
المشورة
قد نحتاج أحيانًا لآراء الآخرين في بعض شؤون حياتنا، وذلك بسبب خبراتهم السابقة أو علمهم الغزير، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ما ندم من استشار، ولا شقي من استخار”. فقد تنجيك المشورة من الهلاك، يذكر الأندلسي أن ثقيفًا همّت بالارتداد بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستشاروا “عثمان بن أبي العاصي”، وكان مطاعًا فيهم، فقال لهم: “لا تكونوا آخر العرب إسلامًا وأولهم ارتدادًا، فنفعهم الله برأيه”.
فلا يمكن للمرء أن ينال الخبرة إلا بالتجارب أو نُصح من هم أكبر منه عمرًا، كان يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “رأي الشيخ أحسن من مشهد الغلام”.
ويجب التأكيد على أنه ليس الجميع قادرًا على إعطائك المشورة لمجرد أنه يكبرك سنًّا، فهناك آراء غير مدروسة، تُعطى على عجالة دون تفكير وتمّهل، وهذا يتسبب في ضبابية الرؤية، مما ينتج عنه نتائج عكسية، قالت العرب قديمًا: “إياكم ورأي الفطيرة”، أي ذلك الرأي غير الناضج وغير المدروس.
حفظ الأسرار
ربما حديث عابر يورث الندم الشديد، وقد ندفع ثمنا غاليًا لساعة من الكلام، تضيق صدورنا ببعض الأمور، تُحدث في دواخلنا زوبعة، نظن أننا إذا أخبرنا به غيرنا ستتوقف تلك الزوبعة، وتهدأ صدورنا، قال الحكماء: “صدرك أوسع لسرك من صدر غيرك”. وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسرّ إليّ حديثًا، أفلا أحدثك به؟ قال لا، يا بني، إن من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، فلا تكن مملوكًا بعد أن كنت مالكًا.
الكرم
لطالما سمعنا عن حاتم الطائي وكرمه الذي يعرفه القاصي والداني، فالكرم صفة محمودة، ويحث عليها الشرع، يقول الله سبحانه وتعالى (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق، ويبغض سفسافها)، والمقصود بسفسافها، المنحط منها والحقير الرديء. ويجب أن نفرق جيدًا بين الكرم والتبذير.
يذكر الأندلسي أن الحسن والحسين قالا لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. قال: بأبي وأمي أنتما، إن الله قد عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني. ويُحكى أن المأمون قال لمحمد بن عباد المهلبي: أنت مِتلاف، أي: كثير الإنفاق، فقال: منع الجود هو سوء ظن بالمعبود، لقوله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أنفق بلالًا ولا تخش من ذي العرش إقلالًا”.
العدل في السلطان
إن العدل قيمة إنسانية يستقيم بها الحال، وهو مطلب كل البشر، لأن فيه درءٌ للظلم، وإحقاق للحق، وبهما تطمئن النفوس وتستكين. فإذا كان السلطان عادلًا، أمن غضب الرعية، واسترضى ربه، وهو كمن أدى رسالته، وفدى آخرته. قالت الحكماء: “إمام عادل، خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم”. ومن عادة الرعية عدم الرضا والسخط المستمر، ومن واجب السلطان أن يعمل ما في جهده ويحكم بالعدل، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “عدل ساعة في حكومة، خير من عبادة ستين سنة”.
وقالت الحكماء في واجب السلطان: “ومما يجب على السلطان العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضميره لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان، ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف، ولا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما”.
فالعدل هو القاعدة التي يُبنى عليها صرح السلطان، ولكنه ليس كافيًا في نظر الكثيرين، فبعضهم يرى أن للمحبة الناتجة عن الإحسان للرعية ذات التأثير والنتائج. وفي هذا السياق يوصي أرسطوطاليس الإسكندر الأكبر قائلًا: “املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها”.
والسياسة ليست حكمًا بالحديد والنار، والاضطهاد، فهي تحتاج إلى ذكاء، وملكة التدبير، ومراعاة الهفوات والعيوب البشرية.
سأل الوليد بن عبد الملك أباه، يا أبتِ ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع. و”الصنائع” هم الرجال الذين اتخذهم السلطان لنفسه وكلفهم ببعض المهام.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 3,704
مختارات ملهمة من كتاب العقد الفريد
link https://ziid.net/?p=90761