قبل أن يرحل الفيروس
الكورونا ليست وباء يصيب الجسد فقط، بل هو فرصة لنا لكي نأخذ استراحة من حالة الجري المستمرة التي نقتل أنفسنا فيها طوال الوقت
add تابِعني remove_red_eye 929
توقفت حركة الصناعة والتجارة، وغابت كل مظاهر الترفيه في اللحظة “صفر” ليختفي معها صوت مشاهير الإعلام والسياسة والاقتصاد، ولينشغل المجتمع بكلّ أطيافه بحثًا في ماهية الفيروس وسرعة انتشاره والوقاية منه، وهل هو ابتلاءٌ إلهيٌّ أصاب البشرية بعد ظلمٍ عمَّ وانتشر برًّا وبحرًا، أم هو جُرمٌ تسرَّب من مختبراتٍ قَيْدَ تصنيعه، أم هي زوبعةٌ إعلاميةٌ لفيروسٍ حقيقيٍّ ظهر وسيمضي كغيره، والله أعلم بماهيته.
فكنّا جميعًا مُضْطَرين للوقوف مع كل شيء من حولنا، فلا عملَ ولا دراسةَ ولا روتينَ كنا نسير فيه ولا ندري -أحيانًا- إلى أين نسير، لذلك اختلفت حياتنا مع الحَجْر المنزلي ليتغير فيها الكثير ضمن مفهوم التأثر بفعل “الصدمة”. عِشنا أيامَ الحَجْرِ بتجارب مُختلفة، فمنها ما كان مُمتعًا مع الأسرة وفي تفاصيل هواياتنا القديمة، ومنها ما كانَ صعبًا حينما اضطُررنا لنُواجهَ كثيرًا من الاختلافاتِ والخلافاتِ في بيئتنا والتي تجاهلناها -هروبًا- كل تلك السنين.
الفترةُ كانت طويلةً، لكنها كانت كافيةً لأن نمتلك الوقتَ للتفكيرِ في ميكانيكيةِ حياتنا، فمثلًا في أعمالِنا إن كنا نستحقُّ البقاءَ فيها أم يجب علينا أن نسعى للأفضل، وفي أعمارنا كيفَ سرقتها الأيامُ ولم نضع بَصَماتٍ جميلةٍ مع أبنائنا وأصدقائنا ومن نحب، ومع ذواتنا لنكتشفَ كم كُنا بُسطاءَ أنقياءَ قبل أن تغطينا حُجُبُ المشاغلِ والحركةِ المتسارعةِ عن تهذيبِ أخلاقنا والإحسانِ في عبادتنا والرُّقي بأرواحِنا على أقلّ تقدير. ولعلّ من جميلِ القَدَرِ أن أيامًا قضيناها في الحَجْر كانت في رمضان لنتعلم من الدروس أكثرَ وأكثرَ.
والآن.. نسمع أن كثيرًا من الدول قد بدأت بإعادة فتح حدودها وعودة الحياة الطبيعيةِ تدريجيًّا بعد مَنْعٍ للتجول دام زمنًا. لذلك قبل أن يَرْحَل الفيروس ونجد له مَصْلاً مُضادًّا أحببتُ أن أشارككم هذه التجربة، خاصةً أن كثيرًا من السياسيين والمفكرين ومنّا عامةً بات مقتنعًا كرؤيةٍ استشرافيةٍ للمستقبل بأن “العالم بعد كورونا .. سيكون مختلفًا عما هو عليه قبلها” ومن كل الجوانب.
لا تحمل نفسك ما حدث في العالم بسبب الكورونا!
الحَجْرُ المنزليُّ كان اختبارًا تربوياً واجتماعيًا ونفسيًّا لنا جميعًا، وكلٌّ منّا عاش التجربة بكُلِّ نكهاتها ومشاعرها، وأعتقد أننا قادرون على تحليلها وكتابةِ قائمةٍ من المُخرجاتِ سَلْبيةً كانت أم إيجابية، لذلك أحببت أن أشارككم بعضًا مما رأيته وعايشته في النفس والمجتمع، وعلى يقينٍ أن لديكُم تجربتكم ومُخرجاتِكم التي من الجيد أن نتبادلها لنستفيد جميعًا. وهاتيكم المحاور ..
– كثيرًا ما كنا نهرُب من تهذيبِ الروح وتغذيتها بلحظاتٍ من الصفاءِ والتركيزِ، حتى أن الخُلوةَ كانت عند بعضنا شِبهَ مُستحيلةٍ لأنه دائمًا ما يُحيط نَفْسه بأصدقاءَ ومُؤَثِّراتٍ خارجيَّةٍ تفقدنا روعة التركيز والخلوة ومواجهة واقعنا. لذلك منحتنا العزلة قدرةً -ولو بسيطة- على الاهتمام بأرواحنا والإجابة عن كثيرٍ من الأسئلة فضلًا عن تغذيتها بالذِّكر والصلاة والدعاء والتوكُّل على الله وقليلٍ من القرآن.
أعتقد.. أن أرواحنا ما بعد كورونا ستكون أكثر شفافية لنعم الله -بتفاصيلها- والشعور بالقُرب منه والمحافظة على “إقامة الصلاة” كما يجب أن تؤدى، سنستمر في استشعارِ السعادة بعد جلسةٍ من الخلوة في ذكر الله، بل سنتذكر أننا صلينا التراويح والصلوات الخمس مع أهلنا وأبنائنا لينتشر بيننا نوعٌ من السعادةِ ما عرفناه فيما مضى، وأننا لأول مرةٍ أصبحنا نقرأ هذه الآية من قصَّة موسى (واجعلوا بيوتكم قبلة) كما لم نقرأها من قبل.
رحلة خائف من الكورونا: كل ما تريد معرفته عن الخوف!
– علاقاتنا الاجتماعية كثيرًا ما كانت مليئةً بالمجاملاتِ والتجاهُل، بل والبُعد القلبي أحيانًا من أقرب الناس منا مكانًا. الحَجْر المنزلي علَّمنا الكثيرَ من التطبيقات العملية لتلك القيم الاجتماعية التي درسناها وتعاهدنا الانتماء لها. إننا مع أبنائنا عُدنا صغارًا فأصبحت برامجهم التلفزيونية تجذِبُنا لنشاهدها معًا، وأصبحت زاوية اللعب في المنزل نقطةَ التقاء الأب والأم مع الأبناء، وأصبح الحوار بين الأبوين والأبناء شرطًا أساسيًّا لاستمرار الهدوءِ في المنزل، بل تعلمنا من أفكارِهم وتجارُبهم وتعلَّموا من خِبْراتنا ومهاراتنا.
وفي الزاوية الأخرى أصبح كثيرٌ من الأزواج أكثر قدرةً على الحوار والتفاهم من ذي قبل ولأسباب مختلفة، فتحسنت العلاقات الأسرية عند كثيرٍ من الناس وتدهورت أخرى وما تلك النتيجتين إلى بسبب المواجهةِ السلوكية والفكرية بين الطرفين بعيدًا عن المشاغل وطرقًا لمشاعر القلب الحقيقية لكل منهما تجاه للآخر. استطعنا ولأول مرة -أحيانًا- أن تجتمع الأسرة من دولٍ مختلفةٍ في مكالمةٍ “فيديويةٍ” كما لم يحدُث من قبل، حتى أنَّ البسمة كانت مُختلفةً عن كل ابتسامةٍ جربناها من قبل وما هي إلا بسمةُ القلبِ التي رسمتها الشفتان على الوجه خاليةً من المجاملة والتكلف. سنُكمل هذه العادة الجميلة ما استطعنا فهي البركة والتوفيق والسعادة.. ويكفي أن الرحم معلقةٌ بالعرشِ يصلُ اللهُ من يَصِلها ويقطعُ من يقطَعُها.
– تنوعت المخاوف الاقتصادية علينا فمن تأثيرٍ سلبيٍّ ماليٍّ عايشناه إلى الخوف من المستقبل المجهول الذي تقول كل إرهاصاته أنها سبع سنين عجافٍ يأكلن ما ادخرناه من رزق وقوت، فاضطررنا إلى إعادة ضبط نفقاتنا والتركيز على بناء خطةٍ محكمةٍ -بحسب الظروف- لمواجهة الأيام. وأعتقد أن هذا من التخطيط السليم الذي يسبق العقلاء فيه الحدث قبل أن يقع، وما قصة يوسف في ضبطِ خزائن مِصرَ عنا ببعيدة. نحن بحاجة إلى بناء مفاهيمَ ماليةٍ لأسرتنا تساعدنا على إدارة النفقات بحيث يعطى كل شيءٍ حقه دون الحاجة لقروضٍ وهدرٍ ومجازفاتٍ غير مدروسة، ولعل أصحاب القروض كانوا أكثر المتخوفين. وأعتقد أننا نستطيع أن نقول أن إدارتنا المالية بعد كورونا ستكون مختلفةً إلى حدٍّ كبيرٍ عما كانت عليه قبلها.
لا تنتظر نهاية الجائحة: ابدأ مع كورونا
– أن ينغلق ثقبٌ من الأوزون، ويعود الدلافين إلى مضيق البسفور، وتتحرك الحيوانات البرية بِحُرِّية في مدننا الأسمنتية، ويعود الهواء نقيًّا من كثيرٍ من الملوّثات الصناعية، فإن ذلك يعكس حجم الدمار البيئي الذي يُحدثه الإنسان في هذه دون أن يراعي أن هناك توازنًا بين البيئة والمخلوقات من جهة وبين المخلوقات من جهة أخرى، وهي علاقة تكاملية. لذلك، أدركنا جميعًا أن البيئة الحاضنة لنا جميعًا هي جزءٌ منا وتعكس جمالنا أو سوءنا أحيانًا، وأننا يجب أن نراجع ثقافتنا البيئية أولا ومن ثم سلوكياتنا إن كانت تؤذي البيئة، وما البدائل الأكثر ملاءمةً بيئيًّا بحيث نختارها، وهذا التغير منوطٌ بنا جميعًا أفرادًا وحكومات وشركات ومنظمات.
– أنظمتنا الصحّيةُ كانت أمام اختبارٍ حقيقيٍّ بعيدًا عن تزييف الإعلام وكلام المسئولين. حتى أن كثيرًا من الدول قد عكست صورة احترام الإنسان فيها من خلال ممارساتها الطبية في ظل الأزمة الراهنة، ناهيك عن إدارة المجتمع والموارد وتوفير الحاجات بين المحافظة على الصحة والمعيشة والتوازن المجتمعي. لذلك، أدرك كل منّا مدى كفاءة الفريق الوزاري في بلده مقارنة مع تجارب أخرى كانت أكثر نجاحًا أو فشلًا، ولاحَظْنا جميعًا أن كثيرًا من الأنظمة والممارسات والمتابعة صارت “أكثر مرونةً” وبذات المخرجات كمن تابع أداء الحكومة بالاتصال المرئي مثلًا، وأن أعمالًا قد سُيِّرت بعددٍ أقلّ من الكوادر مع المحافظة على مرونة العمل. لذلك أعتقد أن كثيرًا من الحكومات قادرةٌ على الاستفادة من تجارب مرحلة الكورونا وتحدياتها لبناء أنظمةٍ أكثر مرونةً وسلامةً تسهل حركة الفرد والمجتمع.
أخيرًا.. هناك فوائدُ فريدة رأيناها كالإقبال على التعلُّم بكل أنواعه وكالاهتمام بالجوانب الإنسانية والمرافق العامة لكن فائدةً قد تكون عندي في القمة عرفناها من هذه التجربة وهي: أن العلماء هم الثروة الحقيقية وهم من يجب أن يقودوا المجتمع.
add تابِعني remove_red_eye 929
خواطر متفرقة عما استفدته من تجربة الكورونا .. بعيدًا عن متاهات جوهر المرض ومصدره
link https://ziid.net/?p=56751