كيف تعايشت مع حقيقة أنني قد أموت؟
لطالما أرعبني الموت،هل ذلك لأنني سأترك أحبتي وحياتي، أم لخوفي من المجهول الذي ينتظرني، لم أجد أحدا يصف لي الوضع بعد الموت
add تابِعني remove_red_eye 91,100
قبل ساعة من تناولي لـعقار (Psilocybin)، كنت قد أنهيت الفصل الأخير من كتاب (دليل المسافر إلى المجرة – The Hitchhiker’s Guide to the Galaxy)، والذي يقسّم فيه المؤلف تطور الحضارات إلى ٣ مراحل: البقاء – تقصي الحقائق – التطور. وأعتقد أن هذه المراحل الثلاث تختصر تجربتي في وقت لاحق من ذاك اليوم في مركز (Bluestone) للبحوث السريرية في جامعة نيويورك، حيث كنت أشارك ضمن تجربة للناجين من السرطان.
وصلت في الساعة (٨:١٥) صباحًا، وأمضيت الـ (٤٥) دقيقة في الاستعداد: فحصت الممرضات ضغط دمي ومعدل ضربات القلب، ووضعت صورًا ﻷصدقائي وعائلتي، سِبحات، حُلى، تماثيل صغيرة … كل الأشياء التي من شأنها مساعدتي في جعل محيطي مريحًا قدر الإمكان. كما كان على الطاولة زهور وفاكهة طازجة.
لقد بدأت رحلتي قبل عقد من الزمن تقريبًا، وتحديدًا عام (٢٠٠٤) عندما كنت في الـ (١٧) من عمري، تم تشخيص إصابتي بسرطان الدم، كانت بداية المرض مفاجئة وغير متوقعة، ففي غضون عدة أسابيع فقط. تدهورت صحتي: انتقلت من مرحلة كوني لاعبا لكرة القدم في فريق الجامعة إلى مرحلة عجزي عن صعود الدرج دون أن تنقطع أنفاسي، كنت أشعر بأن هناك شيئًا خطيرًا يحدث لي.
تمّ تشخيصي يوم الاثنين، وبدأت يوم الأربعاء رحلة العلاج الكيميائي لمدة (٣٢) شهرًا، كان تصنيف حالتي “عالي الخطورة – نسبة النجاة ٥٠% فقط”. ورغم ذلك فقط تمكنت من التعافي، إلا أن القلق من الانتكاس استمرّ في ملاحقتي يوميًّا، وكان يجب عليّ أن أسعى للحصول على مساعدة بأسرع وقت، لكن ألجمني عن طلبها شعوري بالخوف والرهبة.
سمعت عن دراسة لعقار (psilocybin) (وهو اسم ﻷحد أنواع الفطر) والتي تُجريها جامعة نيويورك، ولمس ذلك وترًا حساسًا داخلي، لذا قمت بالتواصل بالباحثين المسولين عن الدراسة، وذهبت إليهم في اليوم التالي.
في التاسعة صباحًا، دخل (د.ستيفن روس – Dr. Steven Ross)- الباحث الرئيس في الدراسة- إلى غرفة التجربة. نظَر إليّ مليًّا، ثم سألني عن أحوالي، وأخيرًا اتفقنا أننا جاهزون للبدء. وداخل قارورة كانت هناك كبسولة تحوي جرعة عالية من الـ (psilocybin) تمنى ليّ الدكتور روس حظًّا طيبًا، ثم خرج. استلقيت واضعًا غطاء العينين، وسماعات كاتمة للضوضاء، جاءت الموسيقى العالمية من خلال سماعات الرأس وطبول القبائل البدائية الصاخبة، ثم انتظرت.
إن كنت ترغب بعيش التجربة مع صاحب القصة، فأنصحك بالاستماع إلى موسيقى تشبه وصف الكاتب، أول شيء شعرت به -أو سمعته بمعنى أصح- كان “طيفا” يقول: (سأريك ما يمكنني فعله). كنت مستلقيًا ﻷكثر من ساعة، معصوب العينين، واستمع إلى الموسيقى العالمية. هل يمكن أن يكون عقلي هو من يتلاعب بي؟
ثم جاءني الصوت ثانيةً، وكرر نفس الجملة: (سأريك ما يمكنني فعله) أول ما “أراني إياه” هو الظلام، مثل معظم الناس، حين أغلقت عيني، رأيت اللون الأسود .. لكنني أيضًا رأيت أشكالًا من الضوء، ثم عاد الظلام .. بعدها بدأت النقاط البيضاء تضرب وجهي ثم تمرّ عبري (شيء يُشبه شاشة التوقف في نظام ويندوز 98) تحولت النقاط بعدها إلى أشكال هندسية: عجلات – تروس – نجوم – مثلثات .. ولم تعد بيضاء فحسب، بل تشكّلت في ألوان الطيف، وتلك كانت البداية.
وهنا تأكدت من الأمر: هذا ليس وهمًا، ذاك الطيف حقيقي وهو يحاول إخباري بشيء ما، لذا توقفت عن المقاومة، توقفت الأشكال عن الظهور، ورأيت نفسي في جنازتي الخاصة، دون أن أدري كيف مِتٌّ. كانت هناك موسيقى جنائزية، وأشخاص حزانى، لكن لم تكن لديهم وجوه. وتشكلت داخلي العديد من الأسئلة: كيف متُّ؟ ولماذا؟ ومن كان في جنازتي؟
انتقل المشهد إليّ مُعتليًا ظهر فيل بأرجل عنكبوت في رحلتي نحو الجحيم، كانت الأرض حولي محترقة، والنيران بعيدة، والجماجم تملأ الأرض. كل شيء كان ميتًا … والفيل يسير ببطء بينما أشعر أنا بألم فظيع. كان هذا أكثر ما عاناه عقلي من ألم طيلة حياتي، كنت مقتنعًا أنني قد مت وذهبت إلى الجحيم، وحين بلغ العذاب ذروته، أخذني الطيف إلى الفضاء.
حلقنا في الفضاء لما بدا لي مئات الألوف من السنين الضوئية، فترة لم أتصور أنني قادر على السفر عبرها، كنا نسافر للهرب من الجحيم الذي تركناه للتو، ومع كل ثانية من هذا السفر كنت أشعر بالمزيد من الراحة وبألمٍ أقلّ، هبطنا في حديقة، كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الكائنات الحية منذ بدأت رحلتي. حاولت أن أستوعب ما حولي قدر الإمكان، لكن الطيف لم يسمح لي بالبقاء سوى لفترة قصيرة جدًّا.
ثم انتقلنا إلى محطة ميترو Grand Central Terminal، وسط أوركسترا تعزف سيمفونية، بقينا لفترة وجيزة، ثم سرعان ما وجدت نفسي أعلى مبنى (Empire State) حيث نظرت إلى مدينة نيويورك، فقط ﻷنزلق في المجاري أسفل المدينة، حدث كل ذلك بسرعة وكان أكثر ما يزعجني هو: لماذا كنت أُقاد إلى كل هذه الأماكن؟
في هذه المرحلة من الرحلة، لم يكن لديّ جسد، كنت ببساطة عقلًا أو روحًا يقودها ذاك الطيف، ثم أخذني الطيف إلى كهف وسط غابة ليبحث لي عن جسد، وحين وصلنا إلى الكهف كان الجسد الوحيد المتبقي هو جسدي أنا، والموجود على أرض الواقع، عندما اختبرت ذاك الجسد -والذي كان معلقًا على مشجب للملابس داخل الكهف- بدأت أرى كيف بدأ خلقي، وكيف نمى الجنين الذي كُنْتُه، ثم رأيت والدتي تَلِدُني، وهذا الجسد يكبر. رأيت كل قطعة طعام، وكل دواء، وكل شراب دخل إلى جسدي أو خرج منه.
تلي ذلك رؤيتي كيف تطور ذاك السرطان، وكيف استحوذ على الخلايا، ثم رأيت عقاقير العلاج الكيماوي، الآلاف منها، كيف دخلت جسدي وهاجمت الخلايا السرطانية، رأيت كل شيء، الجيد منه والسيء، المؤلم والمُبهج، كل ما اختبره ذاك الجسد، لم يكن أمامي مهرب من رؤية كل ذلك، لقد أصبح جسدي وعقلي كيانًا واحدًا. خرجت من الكهف بجسدي الجديد، وأنا أشدّ على قبضتي وأستعرض عضلاتي محاولًا معرفة قدرات هذا الجسد الذي اكتسبته.
وفي الأفق، كان هناك جبل، وقد غطى الضباب قمته فلم أرها، ولكن شعرت بقدرة كيان قوي على قمّة ذاك الجبل، وأحسست به يدعوني لمقابلته. سيطرت دعوته القوية عليّ، فلم يكن أمامي خيار سوى الصعود والالتقاء به. وافق الطيف على أخذ رسالة نيابة عنيّ إلى ذاك الكيان، من الواضح أن كليهما قادران على التواصل، على عكسي أنا، ثم انتظرت، وشعرت بالخجل الشديد وبأنني غير كفؤ (وإلا لما لم يقبل ذاك الكيان أن نلتقي؟)، طال انتظاري وبدأت بفقدان الأمل.
وأخيرًا عاد الطيف إليّ وأبلغني برسالة من ذاك الكيان: عليك أن تكون لطيفًا مع الآخرين، وأن تهتم ﻷمرهم، وهذه هي غايتك في الحياة.
كانت الكلمات بسيطة ومباشرة، لكن قوتها العاطفية كانت هائلة، ثم اختتم الكيان رسالته بالقول: يمكنك تقديم طلب آخر لمقابلتي في وقت لاحق، لكن ليس الآن، بعدها عُدت بوعيي إلى الواقع، ﻷدرك بأن تلك النجوم البيضاء التي كانت تضرب وجهي، ذاهبة للقاء الكيان … وسأكون أحدها ذات يوم … عندما يغشاني الموت تحديدًا.
بعدها جلست هناك وفكرت في كل ما مررت به، شعرت برغبة في رؤية والديّ وأصدقائي. كنت راضيًا عن نفسي، ورغبت بمشاركة حبيّ وتجربتي معهم. شعرت بارتباطي مع العالم، ورأيت الطيف كملاك وبدأت أتساءل عمّا إذا كانت الملائكة تحيط بنا طيلة الوقت، لكن أرواحنا ليست صافية بما يكفي لالتقائهم، لقد كانت تجربة ذاك العقار هي أكثر التجارب التي حوّلت مسار حياتي، وصالحتني مع فكرة الموت، خففت قلقي ومنحت معنى لحياتي: الارتباط مع الآخرين بأواصر العطف والتعاطف والأمل.
المزيد من مقالات الكاتب:
add تابِعني remove_red_eye 91,100
مقال شيق يصف لك تجربة مميزة لمريض سرطان قرر أن يتصالح مع فكرة الموت بعد أن جربه للحظات
link https://ziid.net/?p=17761