لماذا توصف كتابات النساء بالذاتية؟
الكتابة والإبداع ليسا حِكْرًا على الرجال، بل هناك العديد من الكاتبات المبدعات واللاتي يمتلكن تراثًا أدبي لا يمكن أبدًا تجاهله
add تابِعني remove_red_eye 61,969
عندما نشرت نصّ حُبٍّ في المرة الأولى من خلال موقع فيسبوك، لجماعات القراء الذين أتابعهم ويتابعونني، كان الجميع يبدى إعجابه بالنص مع تمنيات صادقة وجميلة بأن تكتمل قصة الحب تلك، أصابني التشوش حينها وأغضبني شخصنة النص، وسلبه جماله، وإسقاطه على الواقع.
فالنصوص التي نكتبها ليست بالضرورة لتصف حالتنا، لكن تكرار الأمر لم يكن محصورًا على نصوصي، لقد طال جميعَ الكاتبات من حولي، ما إن تكتب الواحدة منا قصة عن فتاة حتى يظنوها هي تلك الفتاة، وتبدأ التعليقات في الاتجاه نحو شخصية الكاتبة، لا نصها متجاهلين تمامًا أن الكاتب تسكن رأسه ألف قصة.
كما أنني لاحظت أن ذلك الأمر مَحْصورٌ بالكاتبات فحسب، فحينما يكتب كاتب منشور ما، تدور التعليقات حول النص، أما حينما تكتب الكاتبة نصًّا، تدور التعليقات حولها، وكأن الكاتبات لا يمتلكن خيالًا في رؤوسهن! بل أصبح هناك من يقولون إن الكاتبات لا يجدن سوى كتابة قصصهن فحسب وانتشرت جملًا ساخرة، محتواها أن كل امرأة يهجرها رجل تتجه لكتابة قصتها معه ووضعها في كتاب، وصار لزامًا على الكاتبة، إذا أرادت الاعتراف بها كاتبة أن تبتعد عن مجال القصص الاجتماعية والرومانسية، وكأن الأدب يخضع لتصنيف واحد أو لون وواحد.
[نحو المطبعة: كيف تنشر كتابك الأول؟]
لماذا لا يروننا مبدعات؟
في وجدان الشعوب على مَرّ العصور عوملت المرأة كمخلوقٍ درجة ثانية، من الرجال والنساء على السواء، وذلك ليس فقط حصرًا على المجتمعات العربية، بل يمتد إلى المجتمعات الغربية أيضًا، فعلى الرغم من ارتفاع صوت النساء وظهور النسوية إلا أن الفكرة العامة ما زالت كما هي لدى الكثيرين، فهم يرون أن لا مكان للمرأة بين جماعات الكتاب والأدباء، بل لا مكان لها خارج البيت من الأصل، لذلك فأينما يذهبن توجد الاتهامات، ولا سيما الاتهامات التي تلحق دائمًا بالمرأة الكاتبة، فهناك من يقول: إن النساء نصف مبدعات لا يملكن تجربة غنية مثل تلك التي يملكها الكُتّاب من الرجال، أو أنهن بارزات فقط في كتابة قصص النميمة أو القصص الاجتماعية لأنها صنعتهن.
وفي بعض الأحيان توصف لغة النساء باللغة الركيكة، على الرغم من أن ركاكة اللغة لا ترجع أبدًا لجنس الكاتب، بل لحصيلته اللغوية ومهارة استخدامها، أو العكس وهو تسلُّح بعض الكاتبات بلغتهن الصقيلة لأنهن لا يملكن أفكارًا فذَّة، ولكم طارد هذا الاتهام الكاتبة العربية (أحلام مستغانمي) بل لم يتوقف الأمر عند تفاهة الأفكار -على الرغم من كونها ليست تافهة- واللغة المزخرفة، بل تعدى إلى نسوية الأفكار وإفساد عقول النساء وهو ما أقف أمامه ذاهلة، فهل تلك المرأة التي كتبت (كنت سأنجب منك قبيلة) معارضة للرجال وتكرههم وتحض على كراهيتهم، ثم تعدى الأمر لاتهامات صريحة بسرقة إحدى رواياتها من شاعر عربي.
فالاتهامات تقف دائمًا للكاتبات، كُلٌّ مترصِّد، فمن عدم قدرتها على الإبداع إلى الكتابة النسوية، حيث تُتَّهم الكاتبات اللاتي تطرحن مشكلاتهن المجتمعية في الروايات بأنهن نسويات، وكأن اهتمام الكاتبة بمشكلات مجتمعها، عيب يقدح في شخصيتها، أو كتابتها، بل إن هناك بعض الأشخاص يفضلون أعمال كاتبة وينكرون أو يحاولون تجاهل أعمالها الأخرى، فإن سألت أحد هؤلاء عن الكاتبة المبدعة (بثينة العيسى) ستجدهم يذكرون (كل الأشياء) (خرائط التيه) ولكنّ عملًا مثل (كبرت ونسيت أن أنسى) تجده مهملًا، لا يذكره أحد على الرغم مما يحمله من جمالية ومشاعر صادقة، ووصف الألم الذي عانت منه البطلة.
- دليل الكاتب المغوار في اصطياد الأفكار
- كيف تكون كاتبًا مستقلًا محترفًا
- مذكرات كاتب مُصاب بمتلازمة ضياع الفراشة!
نحن ذاتيات نعم! وماذا بعد؟
في كتاب (تقنيات كتابة الرواية لنانسي كريس) جزء الشخصية وكيفية كتابتها النص التالي:
“لديك أربعة مصادر تستمد شخصياتك منها: أنت نفسك، أشخاص حقيقيون تعرفهم، أشخاص حقيقيون تسمع عنهم، وخيالك الخاص) وفي الفقرة التي تليها “كل شخصية تبتكرها منك أنت، فأنت لم تقتل أحدًا في حياتك، ولكن غضب القاتل مستمد من ذكريات أقصى لحظات الغضب التي عرفتها”.
فالحقيقة أن الكاتب سواءٌ كان رجلًا أو امرأة، أول ما يستمد منه حكايات الكتابة هي حكايات حدثت له فحركته لتدوينها، أو أقاصيص مرت عليه، أو مواقف كان طرفًا فيها أو حتى حكايات الطفولة، في رواية “لقيطة إسطنبول“، كتبت إليف شافاك شخصية “الخالة بانو” وهي السيدة المشعوذة، وحينما تقرأ كتاب “حليب أسود” وهو مذكرات الكاتبة مع الكتابة والأمومة وحكايات أخرى ستجدها تصف جدتها بقولها:
“جدتي لأمي امرأة لطيفة وقِدِّسية وغفيرة بالخرافات”.
وفي موضع آخر تحكي عن قصتها مع جدتها التي أسهمت بشكل كبير في طفولتها، تلك الجدة التي تصنع الرُّقى والدوائر على التفاحات وتتمتم عليها من أجل شفاء المرضي والمتعَبات، فالمدقق سيجد أن الخالة “بانو” مأخوذة من الجدة وتشبهها إلى حد كبير، فهل أفقد هذا إليف براعتها، على العكس تمامًا، لقد أخذت الشخصية الحقيقة، ثم هناك وضعت حولها الزخم الذي جعلها في وجهة نظري أحلى شخصيات الرواية. فالكاتب سواءٌ كان رجلًا أو امرأة هو الماهر في توظيف ما يمتلكه من مادة أولية من بيئته، ثم يحوله إلى قصة جميلة، إنه مثل الساحرة التي حولت اليقطينة إلى قرعة، وسندريلا العادية ذات الثياب الممزقة، إلى أميرة أخاذّة الحسن بفستان جميل.
ترى الكاتبة المصرية (نورا ناجي) والتي صدر لها الكثير من الروايات آخرهن كانت (أطياف كاميليا):
الذاتية ليست من العيوب المُخلَّة بالكتابة أو التي تنزع عن الكاتبة صفة الإبداع، فلا توجد مشكلة في أن تستعين الكاتبة بقَبَس من تجربتها وتقوم بإضافته للنص، فهي لا تكتب سيرتها الذاتية إنما تقتبس القليل من تجربتها لإثراء النص. وتقول أيضًا: أنا أحب الكتابة عن نفسي أرى أنني عشت حياة ثرية فلا مشكلة من اقتباس شعور لشخصية لا تشبهني، ففي روايتي “بنات الباشا” كتبت قصص عشر شخصيات هل يعني ذلك أن كل هؤلاء اللاتي كتبت قصصهن أنا، ومن يقول إن الكاتبة تكتب قصة حياتها قد يكون ذلك في عمل، ولكن هل تكتب امرأة من قصة حياتها عشرة أعمال مثلًا.
كما أوضحت أن الذاتية في نظرها هي مشاهدات الكاتبة وحياتها وتجربتها وقراءاتها وقصص عرفتها، وذلك لا يخص الكاتبات فحسب بل يخص الكُتَّاب أيضًا فأنت إن لم توظِّف ما لديك ستكتب أدب خيال علمي أو رُعْب، بل حتى إن تلك الأصناف، تحتاج فيها لمشاهداتك. ولن تنتهي أبدًا الاتهامات التي تخص الكاتبات، ولكن لعبور ذلك الطريق يتطلب أن تعرف الكاتبة هل تحب الكتابة أم لا؟ وهل تكتب لأنها شغوفة بالكتابة أولًا أم أنها تكتب للناس؟ فحينما تكتب لأنها تحب الكتابة، ستمضى فوق أيّ اتهامات.
أما عن رأي الكاتبة ومدربة الكتابة الإبداعية (سارة كرم) والتي صدر لها مؤخرًا كتاب (حرفة الحكاية):
إن الربط الذي يحدث بين شخصية الكاتب والنص ربط خاطئ وليس في محله، فأحيانًا يكتب نصًّا يقصد نفسه فيتصور الناس أنه نص عادي، وأحيانًا يحدث العكس، وهذا ما يردُّنا لمقولة أورهان باموق (هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخص آخرين وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة). كما أن الربط بين شخصية الكاتب ونصوصه الأدبية لا يفيد في فَهْم النصّ أو الحكم على جودته، من عدمها. هناك استثناءات قليلة يكون فيها ذلك الأمر نافعًا وهو أثناء دراسة ونقد المشاريع الأدبية الكبيرة. ويظل من حق القارئ أن يتصور أو يتخيل أيّ شيء، لكن إصرار القُرّاء على تلك الآراء وكأنها مُسلَّمات أو حقائق هو أمر بالغ السخف، ويزعج الكاتب، وخصوصًا الكاتبات اللاتي قد يُلحق رأيٌ كهذا بهن الكثير من الاتهامات المجتمعية.
add تابِعني remove_red_eye 61,969
منذ أن تعرفت إلى مجتمعات القراءة وأول تهمة جاهزة لتقدح في إبداع الكاتبة تكون الذاتية، فما هي ولم؟
link https://ziid.net/?p=58841