هيستريا قرية سالم، هل تضربنا مجددًا؟
ها نحن هنا على بعد قرون منهم، لكنه ما زال الخوف يتملك الناس، ما زالوا يرتعبون إذا ما واجهوا أمرًا يخالف ما تعودوه
add تابِعني remove_red_eye 105
في يناير 1692 في قرية سالم، التابعة لمستعمرة “ماساتشوستس” البريطانية في أمريكا، عانى كلٌّ من: إليزابيث باريس ذات التسعة أعوام، وقريبتها أبيغيل ويليامز صاحبة الأحد عشر عامًا من نوبات غريبة، إذ بدأن بالصراخ ورمي الأشياء والتلوي بطريقة غريبة وإصدار أصوات مريبة، ثم تبعتهم آن بوتنام ذات الأحد عشر ربيعًا، بنوبات مماثلة، شخصها الطبيب المحلي بأنها “تأثير قوى خارقة” وأن الفتيات مصابات بمس شيطاني.
بداية الهيستريا
وفي التاسع والعشرين من فبراير لنفس العام، أشارت الفتيات بأصابع الاتهام نحو ثلاث نساء، بعد ضغط من القاضيين جوناثان كورين وجون هاثورن، والنساء هنّ: تيتيوبا، خادمة لدى آل باريس – أهل إليزابيث -، سارة جوود متسولة بلا مأوى وأم لطفلة في الرابعة من عمرها تسمى دورثي، وسارة أوزبرن امرأة فقيرة.
اتهمت النساء الثلاثة بتهمة ممارسة أعمال السحر والشعوذة، وهي جريمة بشعة تستوجب القتل في ذلك الزمن الغربي القاتم، تم استجوابهن في الأول من مارس، تمسكت كل من سارة جود وسارة أوزبرن ببرائتهما، بينما اعترفت تيتيوبا بارتكابها لأعمال السحر، إذ أخبرتهم أن رجلاً أسود طلب منها توقيع كتاب في يده، وأن الشيطان طلب منها مساعدته، ولم تتوقف هنا، بل ادعت أنها رأت توقيع كلٍّ من جوود وأوزبرن، آملة في تخفيف الحكم الذي سيقع عليها.
سرى الرعب في نفوس القرويين، وساد نوع من الهيستيريا الجماعية، وأصبح الجميع يتهم الجميع، وتم استجواب الأطفال والكبار، حتى أن دورثي ابنة سارة جوود اعترفت على والدتها، وهكذا تم اعتقال العديد، وتمت مسائلة أكثر القرويون إخلاصًا مما زاد من عبثية المحاكمات، بمبدأ “إن كان هذا الشخص الشريف فعلها فلم لا يفعلها جاري؟”، حتى أنه تم سحق رجل عجوز بالحجارة لأنه رفض الاستجوابات.
تم شنق أول امرأة في العاشر من يونيو، وتتابع بعدها تأرجح الأجسام على حبال المشانق، متجاهلين طلب القس كوتون ماثر ألا يتم الحكم أخذًا بشهادات عادية دون دليل. لكنه عندما وصلت الاستجوابات إلى شخصيات مرموقة، كزوجة ويليام فيبس، قرر الاستماع لطلب ماثر وتوقفت الاعتقالات، وتم حلَّ المحكمة، بعدما أُزهقت تسعة عشر روحًا، خمسة عشر منها لنساء. في الرابع عشر من يناير عام ١٦٩٧، أمرت المحكمة بيوم صيام لأجل تراجيديا قرية سالم.
كواليس القصة
حاول العديد تحليل قصة قرية سالم، بداية من مجتمع القرية ذاته، مجموعة البيريتانيون المهاجرون من إنجلترا، المنعزلون على ذاتهم في قريتهم، وخوف أهل القرية من الجوع، والحروب مع جيرانهم من السكان الأصليين، والفرنسيين، وباقي الطوائف، والفقر الشديد في القرية، وحتى الفتيات اللاتي بدأن موجة الاتهامات، يرى بعض المؤرخون أنهن ما فعلن هذا إلا انتقامًا، فقد تشاركن في الفقر وعدم وجود مهر يخولهن للزواج، خاصة أن الاتهامات كانت في غالبيتها تطال النساء، أما بالنسبة للنوبات المنتشرة بين الفتيات، فيرجع المؤرخون هذا إلى “convulsive ergotism” وهي حالة تسمم تنتج عن تناول حبوب – أو منتجاتها – مصابة بفطر معين.
خلدت قصة قرية سالم، وأصبحت مصدر إلهام للكتاب والمؤلفين، كمثال عما قد يفعله الخوف البشري من شيء غريب.
هل تضربنا الهيستريا مجددًا؟
لم تنتهِ هيستريا قرية سالم مع انتهاء تلك الفترة، وإنما تعود آلاف المرات في مجتمعنا، نفس المحاكمات تعقد على مواقع التواصل، ما إن يظهر شخص مختلف، أو فعل لا يشبه ما تعودناه، حتى تعقد المحاكات، وتعلق المشانق في المنشورات والتغريدات، ويصاب الجميع بهيستريا غريبة، ويتحدث الجميع في آن واحد، وترتفع أصابع الاتهام نحو أي شخص لا يوافقنا الرأي، دعني أقص عليك بعض الأمثلة.
هيستريا رقم ١
منذ عام وشهر تقريبًا، استيقظ المجتمع المصري على وفاة كاتبة عُرفت بآرائها المختلفة عما تعودناه، ظهر الخبر وما هي إلا ساعات حتى انفجرت وسائل التواصل بمنشورات، مختلف المنشورات التي تحتضن مختلف الآراء، ما بين شامت وغاضب، وأحد يسب هنا وآخر يتهم هناك، حتى لو أنه سولت لك نفسك الدعاء بالرحمة لها لحكمت على نفسك بالرجم مستخدمين وجوه التفاعل “أضحكني” أو “أغضبني”، الغريب في الأمر أن معظمهم لم يعرفها قبل خبر وفاتها، ليس لقلة كتبها فلها ما يقارب العشرين كتابًا، وإنما لقلة اهتمامه بالأمر، أو شخص لا يحب القراءة، بل إن البعض اشترك في تلك الهيستريا الجماعية دون أن يعرف أنها كاتبة، كان يكفي أن تلتقط صورة لكتبك وبها كتاب واحد للكاتبة، فيتم اتهامك بالكفر دون أن يعمل شخص واحد عقله.
هيستريا رقم ٢
عُرض فيلم منذ أشهر بعنوان “أصحاب ولا أعز” فيلم عربي لا يحتوي إلا على ممثلة واحدة مصرية، تدور أحداث الفيلم على أرض لبنانية، ويعرض على منصة مدفوعة، إلا أنه انتاب الجميع هيستريا جماعية، ودعوى للحفاظ على الأخلاق المزعومة، والسب والقذف، ودعوات مقاطعة لمنصة لا يشترك فيها معظمهم، وخوف على قيم مجتمعية لا نسمع بها في القضايا الحقيقية.
هيستريا رقم ٣
اتُّهم يوتيوبر باشتراكه في العمل مع الكيان الصهيوني، وساد نوع من الفوضى، وحملات مقاطعة هنا، ومنشورات طويلة عريضة، وأشخاص يبدأون حديثهم بأنهم “لا يتابعونه”، وينهونه بـ”أنا أقاطعه” لا أدري ما كان مفهوم المقاطعة عندهم.
هيستريا رقم ٤
هي الأخيرة والتي ما زالت مستمرة، يدور الأمر حول كاتب مثير للجدل، يكفي فقط أن تذكر اسمه أو تشير لكتاب له، وسينهال عليك سيل من الشتائم والـ “أغضبني” والتشكيك في دينك وعقيدتك.
لم يَفْنَ أهل قرية سالم مع مرور التاريخ، ما زالت أشباحهم تعيش في نفوس جديدة، ما زالت هيستريا قرية سالم تضربنا، وستظل تضرب هذا المجتمع، خاف أهل قرية سالم من نوبات الفتيات الصغيرات، تملكهم الخوف حتى أعماهم وانتشرت حمى الساحرات، وانتشرت الفوضى وارتفعت مئات أصابع الاتهام نحو بعضهم البعض، وها نحن هنا على بعد قرون منهم، لكنه لازال الخوف يتملك الناس، ما زالوا يرتعبون إذا ما واجهوا أمرًا يخالف ما تعودوه، يخافون من البحث والتدقيق واتباع الأدلة، كان أهل القرية منعزلون، وهذا ما ساهم في اندلاع شعلة الخراب، ومع استمرار الانعزال الفكري للناس اليوم، ستظل تقام محاكمات مواقع التواصل، وتستمر الاتهامات.
عندما يجلس الخوف على عرش العقل، تسود الفوضى.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 105
في قرية صغيرة يسود رعب جماعي أو ما يسمى بالبارانويا، كيف أثر على قرارت القرية وتصرفات أهلها؟
link https://ziid.net/?p=98795