الرقص على الجراح… ظاهرة بيع الدماء
التنازل مقابل المال شريك غير مباشر في الجريمة ومشارك في التساهل في دماء الغير والمفارقة أن من يسعى في ذلك يعتقد أنه يفعل خيرًا
add تابِعني remove_red_eye 98
ينتابني حزن عميق إذا علمت بحادثة قتل مفجعة، وأحزن أكثر؛ إذا تم بيع دم القتيل بملايين تجمع بحملات شعبية، ولكني أرضى بالقصاص وأفرح أكثر إذا تم العفو لوجه الله. مشاعر تتأرجح وآراء تتصارع في ظاهرة بدأت تكبر ككرة ثلج تتدحرج، وإلى غير منتهى في منحدرات المجتمع المادي. وأخشى أن يستمر هذا المسلسل، في جمع التبرعات لسد مبلغ التنازل عن الدم، وأن يتحول المشهد إلى مسلسل مكسيكي لا نهاية لحلقاته، حيث برزت في السنوات الأخيرة هذه الظاهرة المُقلقة، وارتفعت أسعار مبلغ التنازل بشكل تصاعدي متسارع؛ فقد بدأت الأسعار قبل عقدين من الزمن، من مليونين وثلاثة، ثم خمسة، وسرعان ما قفزت إلى عشرة، حتى تضاعفت إلى خمسين وقاربت المائة مليون ريال!
صفقة متعددة الأطراف
وحينما تبحث في الظاهرة تجد أسبابًا عدة ساهمت في تفشيها وتحورها، من فعل خير -وهو عتق رقبة- إلى عملية ذات وجوه مكتسبيه متعددة، فمنهم من يستعرض بها اجتماعيًّا، ومنهم من يستعرض قدراته الشعرية في إثارة حماس الجماهير والتصفيق له، ومنهم من يتكسب بالسمسرة والتأثير وتخفيض المبلغ، حتى أصبحت العملية صفقة قذرة بكل ما تعنية الكلمة من معنى.
الإعلام الاجتماعي أثار الزوبعة
وفي ظل وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الأيدي لا تفرق بين صغير وكبير وعاقل ومجنون، حيث ساهمت في تداول المقاطع المثيرة والبيانات العشائرية، وقائمة التبرعات، والتنافس والتسابق المحموم بين المتبرعين في دفع مبالغ أكثر وأكثر، وصنعت بسرعة نقلها حدثًا مثيرًا يتابعه مئات الآلاف مليئًا بمواقف الأكشن. هذا المسار الاجتماعي الخطير انحرف تمامًا عن مقاصد الحكم الشرعي بالقصاص، الذي عبر عنه قول الحق: (ولكم في القصاص حياة). فالقصاص حماية للنفوس وصيانة لسلامة المجتمع، والاستثناء المشروع والمقبول هو العفو والصفح لوجه الله، ولا بأس في تدخل شفاعات الوجهاء وأهل الخير في عقد الصلح ورأب الصدع.
أما سوى ذلك فهو متاجرة صريحة بالدماء، وتشجيع على مزيد من العنف والقتل. وفي رواية شفهية متناقلة عبر مقطع مرئي من شاهد عيان لمشاجرة بين شابين على موقف سيارة، نزل أحدهم وبعد ملاسنة حادة باغته بطعنة قاتلة ثم قبض عليه بعض المارة، وكان يبكي ندمًا ويتخبط في كلامه بين أسف وبين تذرع بالقدر، وكان من بين سقطات لسانه اللاإرادية قوله “ورأي قبيلة”.
وراء كل تنازل جرح عميق
الظاهرة مليئة بالقصص الحزينة، فما أن ينتزع التنازل بإغراء أحد أولياء الدم دون موافقة البقية حتى تنشب الخلافات بين أم مكلومة وأخ مجروح، وقد حصل في أحد القصص أن الأب تنازل مقابل مبلغ مليوني دون أن يأخذ رأي طليقته والدة القتيل التي كانت قريبة من مسرح الحدث الذي راح ضحيته ابنها، مما ضاعف من حزنها وحسرتها وهي ترى دم ابنها يباع في أعلى مزاد، وفي حادثة أخرى تم نقل الجد إلى المستشفى مُغمى عليه بعد علمه بتنازل ابنه عن حفيده الذي يعيش في كنفه.
وفي حادثة ثالثة تنازل الوالد في ساحة القصاص بضغط من الوجهاء دون مشاورة أبنائه المتواجدين في الساحة والمنتظرين تنفيذ حكم القصاص بقاتل أخيهم؛ ما استدعى أحدهم أن يخرج عن طوره حين علمه بتنازل أبيه ويهاجم سيارة الأمن التي تحمل الجاني، مما اضطروا للدفاع والحفاظ على الأمن فلحق بأخيه. وفي حادثة أخرى تنازل الابن دون قناعة أعمامه أخوة القتيل وبعد أن خرج الجاني أقام له ذويه حفل كبير، ما أثار حفيظة أهل الدم وقاموا بتوبيخ الابن الذي تنازل عن دم أبيه مقابل المال مما دعاه إلى مهاجمة المتنازل عنه وهو في صالون الحلاقة استعدادًا لحضور الحفل البهيج وقام باغتياله، مما أعاد الجريمة إلى مربعها الأول.
رقص على أنغام الألم
في مقابل هذه المآسي والجراحات، هناك من يرقص على نَشْوَة ما تسمى بالشيكات، معلنًا الانتصار، في مظهر يناقض المشهد الحزين دون مراعاة للشعور العام للحدث المأسوي، ولم يحصل ذلك لولا أن هناك من ينتزع التنازل خلسة وعلى حين غرة تحت إغراء المال ودون إعطاء وقت كافٍ للمشاورات؛ ما يجعل من يسعى بوجاهته أو ماله للحصول على التنازل بهذه الطريقة شريكًا غير مباشر في الجريمة، ومشاركًا في التساهل في دماء الغير، والمفارقة أن من يسعى في ذلك يعتقد أنه يفعل خيرًا.
أصوات تدعو للرشد
الظاهرة أثارت امتعاض كثير من الفئات الاجتماعية، والمؤثرين من كتاب ودعاة، واهتمام بعض الجهات الرسمية، حيث تدخل مجلس الشورى وقام بدراسة الظاهرة واقترح ألَّا تتجاوز قيمة التنازل عن خمسة مليون ريال، ومنع مظاهر التجمعات في طلب التنازل وجمع التبرعات، لعل ذلك يخفف من حدة المشكلة وعدم تفاقمها، حتى لا يكون القتل سهلًا طالما أن انتزاع التنازل ب “خشن الريال” بطولة!
أوشك الحبر المخصص أن يجف، وما أود التأكيد عليه في آخر قطراته الحمراء التي تشبه لون الدم أنه يجب أن تترك الدماء تجري في مسارها الشرعي، وفي سياقها الطبيعي، فإما قصاص وأما عفو لوجه الله، فما عند الله خير وأبقى.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 98
مقال يتناول ظاهرة التنازل عن حق الدماء مقابل المال
link https://ziid.net/?p=98404