لماذا لا زلت اقرأ رغم كل شيء؟
القراءة هي السلاح الذي أمسكه أنا في وجه الصعوبات التي تواجهني في الحياة، إنها المخلص من التفكير والآلام.. فلماذا تقرأ أنت؟
add تابِعني remove_red_eye 9,130
كنت في السنة الثانية من الجامعة حين أمسكت أول كتاب في يدي. كان الكتاب لأجاثا كريستي، “مقتل السير روجر أكرويد”. عندما انتهيت من الرواية التي في يدي، كنت كمن اكتشف أسرار الكون.
بعد ذلك بدأت رواية “تراب الماس”، تلك الرواية أعجبتني كثيرًا حينها، فما كان مني غير أني وضعت نفسي مكان الرجل الذي نصَّب نفسه حاكمًا وإلها ومعاقبًا للمجتمع، أقام هو ميزان العدل -كما كان يتصور هو- بدلًا من الظلم المستفحل في المجتمع. أعجبتني الفكرة وحاولت أن أناقشها مع من حولي، فاكتشفت أن أكثر من ثلاثة أشخاص من أصل عشرة، يؤيدون الشخصية الرئيسة وأنهم لو بأيديهم يحاكموا الناس ويقيموا هم العدل من وجهة نظرهم .. فسيفعلون.
ومن هنا قد بدأت أبحث عن تجمعات ومنتديات تجمع القراء على الإنترنت أو حتى في الجامعة، كنت كمن يشتم حوله في كل مكان لكي يجد ضالته. حينما بدأت أعرف القراء من زملائي أو على الإنترنت، تفتحت الكثير من الآفاق أمامي لم أكن لأحلم أبدًا أن أفكر فيها أو حتى أحاول أن أبحث فيها وأتبحر.
مع الوقت أدركت أن القراءة ليست شيئًا محدودًا نستطيع استيعابه أو استيعاب نتائجها. “قال لي سالم بيه: “أنت تقرأ كثيرًا.. أنت مجنون!” .. قلت له: إن القراءة بالنسبة لي نوع رخيص من المخدرات. لا أفعل بها شيئًا سوى الغياب عن الوعي.
في الماضي -تصور هذا- كانوا يقرءون من أجل اكتساب الوعي!
أحمد خالد توفيق من رواية “يوتوبيا”
إذا.. لماذا نقرأ؟
إن فكرت في لماذا نقرأ؟ سنفكر ما الذي فعلته لنا القراءة! وهذا مرة أخرى. كما ترى عزيزي القارئ، فأنا وأنت قرّاء، لا نستطيع أن نحصر القراءة في سطور أو مقالات بل، إذا نظرنا جيدًا سندرك أن الموضوع يختلف من شخص لآخر ولكنا في النهاية نتفق أنها تغير الحياة والتفكير ووجهات النظر، فنصبح بعدها أكثر هدوء من الخارج، وكلنا ألوان وصخب داخلي.
نقرأ لأن
– نسكن أجسادًا أخرى
أنت لست ذلك الشخص الذي تحطم عالمه كاملًا وأصبحت المياه تغمر الكوكب أجمع حتى أتت وحشية الإنسان لعمل مدينة تحتكر الناجين لتقوم ببناء مدينة يكون الناس فيها درجات على أكتاف الناجين من غرق الأرض .. أليس كذلك؟ تلك رواية “المد الهائل” ل”ألكسندر هيل كي”. بدأت تدرك ما أعنيه تمامًا.
لنرى مثالًا آخر، لن تفتح شباك بيتك في قريتك لتجد من يطير بسجادة بجانب النافذة، ليبيعها لك على أنها من عجائب ما وراء البحار! أو حتى أن ترى شبح والدك تحت الشجرة كما مات من قبل! أو أنك لن تفك شيفرة أوراق رجل عجوز كان قد سطَّر تاريخك أنت وأجيال عائلتك كاملة! تلك كانت “مائة عام من العزلة” ل”ماركيز”.
أنت تسكت أجساد وأرواح شخصيات لن تكونها في عوالم لن توجد، وإن وجدت لن تكون أنت جزءًا منها، أو ستكون جزءًا ولكن في الكتاب فقط، فقط وأنت بملابسك المنزلية ممسكًا بدفتي كتاب وبجانبك برتقالة وكوب من الشاي البارد لأنك نسيت أن تشربه في خضم معركتك مع النمل وهو يأكل صغيرك وأنت تفك أخيرًا شيفرة المائة عام!
– تجارب تجعلنا نفهم ما حولنا
عن تجربة شخصية، قبل القراءة، لم أكن لأقدر أي شخص لديه نقص ما أو سلوك سيئ ما أو حتى تصرف عكس المعتاد من الشخص. كنت أبرر لنفسي جيدًا متناسية أن الناس مثلي، ثم يومًا ما قرأت أن هناك من تعنفت وهي صغيرة، فيحاول عقلها أن يحميها عن طريق أن تكون بارزة وعنيفة مع كل من يحاول أن يقلل منها، فهي الآن بيدها أن تحافظ على عقلها وأن تحاول عكس التأثير السلبي لذا فهي لن تسمح لأحد بأن يضعها بأقل مما تستحق.
في الماضي، كنت أقول أن تلك الشخصية عنيفة ومتحفزة بلا سبب.
يمكن أن تقع عيناي على فتى ضعيف محطم لا يستطيع أن يحارب لما يريد! ثم أطلق الأحكام هنا وهناك كمن نصبت حاكمة على الكرة الأرضية، ثم في كتب علم النفس أقرأ أن ذلك يمكن أن يرجع للتحكم في قرارات هذا الرجل وهم صغير أو حتى أن يتم الضغط عليه بوسائل اعتاد ألا يتخلى عنها، فيكبر ليصبح بتلك الهشاشة والسقوط لقاع القاع حتى لو كان ناجحًا في جانب من جوانب الحياة، فسيظل دائمًا تحت حكم شخص آخر وكل حياته ليست له.
وهكذا، نصبح مراعين، محللين، مفكرين فيما وراء الفعل والإشارة والموقف، نبحث ونقرأ ونتعمق.. نحاول أن نتقبل ونفهم ونستوعب، نراقب.. القُرّاء هم مراقبون جيدون ومستمعون ممتازون.. فقط تعال أمامهم وعش حياتك لتجد من يبتسم لك بلا سبب متذكرًا أنك بشري ويومًا ما يمكن أن تدور عليك دائرة قد قرأناها أو حدثت لنا من قبل.. في النهاية نحن من يطبق الفلسفة التي تملأ الكتب ولكن .. بصمت.
– لأننا جائعون للمزيد دائما
الآن عندما أعود لما قرأت قبل خمس سنوات، وكنت أراه مبهرًا، ابتسم ابتسامة تنم على الفخر المختلط بالقليل من الأمل، القراءة هي الشيء الوحيد الذي يتطور شئنا أم أبينا، يتطور بالوقت، بالكتب التي تقع أمامنا صدفة أو حتى بشطحة خيال أو شطحة مناظرات تجري بداخل العقل.
تطورنا يصبح ملحوظًا جدًّا مع الوقت، تطور تراكمي، في البداية لن تحب التأملات في الرواية ولن تحب الأجواء الهادئة التي تصف الغرفة أو شعور داخلي، ثم مع الوقت ستصبح رافضًا لنوع معين كنت تعشقه وتقرأه بكل تكراراته. لن تكره بشكل كامل لأكون صريحة، ولكنك ستدرك أن قسم المفضلات كالآلهة التي تصنع من عجوة.. يجب هدمها أو أكلها دون تقديس، ستتعلم أن التقديس في بداية قراءاتك طبيعي ولكنه يصبح بعد ذلك قانون قابل للتغيير.
مثال: في الماضي كنت أخاف أن اقرأ لنجيب محفوظ، واليوم هو الوحيد الذي ألجأ له إن عانيت من ملل القراءة أو شعرت أن كتبي لا تحتوي على ما يحتويني في فترة معينة، فأذهب لاجئة إليه كأب حنون يستطيع سماعي وترجمة ما أعجز عن سؤاله بصوت عال.
– المتعة
وذلك سبب شخصي لمن كتبت هذا المقال، ومن أولى وأهم أسبابها. كانت مغامرة رائعة بل أكثر من رائعة أن أقرأ كتاب “عزاءات الفلسفة” لأدرك أن هؤلاء الفلاسفة يحولون حياتهم ومعاناتهم لتوجهات نأتي بعدهم فقط لنحاول أن نصل لما وصلوا له هم أو على أقل تقدير نحاول أن نتبع مسار حياتهم، فالفلسفات عادة هي مسيرة أشخاص، تعرضوا لأحداث فخرجوا منها بتوجهات ووجهات نظر صريحة تتناسب مع حياتهم وعقلياتهم.
كانت من أكبر التحديات منذ ثلاث سنوات أن أمسك كتاب “مغامرة العقل الأولى” لأبدأ رحلة وسط الأساطير والتاريخ مع “فراس السواح”، كان تحديًا، حتى أنني توقفت في منتصف الكتاب العديد من المرات لألتقط أنفاسي.
هناك “كتاب المواصلات” الذي قرأت فيه سيرة قصيرة جدًّا لما حدث لمحمد فوزي باكية أمام العديد من الراكبين بجانبي في المترو لا يفقهون لم كنت أبتسم ثم قلبت الصفحة فأصبحت باكية فجأة.
المتعة في التبحر في صفحات متنوعة ومختلفة، أن تناقش الكتاب مع ثلاثة أشخاص لتكتشف أن الكتاب له (1000) زاوية وأنت تدرك فقط واحدة. الكتاب هو خلاصة عقل آخر واجه تحديات مختلفة، عاش حياة وتجارب مختلفة، كما أنه بروح وقلب مختلف.. يحاول أن يسطرها على أوراق بطريقة منمقة ومرتبة، لتأتي أنت بكل تجاربك وبصمة عقلك المختلفة وكل ما مررت به لتترجمه أنت تبعًا لبصمتك الخاصة، ولاحقًا تدرك أنك لم تقرأه كصديقك، بل والكاتب لم يكن يقصد كل تلك الزوايا الأخرى.. أرأيت أين تقع المتعة؟ إنها لعبة تفتح عقلك لعوالم متعددة الزوايا ولن تستطيع أن تخرج منها، إنها كبيت المرآة.. أترى مخرج؟ لا، ولكنك لا تريد الخروج.
– لنكتب
هل تعلم ما الذي ينكب عليه الكاتب طوال عمره؟ القراءة. إنها ملجأه ومعلمه ومرشده ومطوره ووسيلته وأداته. إنها كل شيء بالنسبة له، إنها المعلم والاختبار والخبرة والعلم. القراءة هي ما تخرج ما بداخلنا خاصة إن كنت قابل لحمل القلم والكتابة.
نحن نكتب لأن القراءة تجعلنا قادرين على التعبير، قادرين على التعرض للكثير والكثير من الأمور التي لن يستطيع معايشتها من لا يحاول أن يفتح وعيه على العوالم الأخرى والعقول الأخرى.
نحن نكتب تجاربنا، خيالنا، الأمور التي نحب أن نناقشها، الأبحاث التي نستلذ بالتعب فيها، وتلك الأمور التي تدور بخلدنا بطريقة ما تخرج على الأوراق كوسيلة للتوعية والتعليم أو حتى الاستمتاع للآخرين ولكنها تخرج من الكاتب لأنها فقط يجب أن تخرج.. تخرج كملاذ، كطريقة للتعبير عن الذات غير المفهومة، لطريقة للحب أو طريقة للعيش.. نعم فالقراءة الكتابة هي طرق لكسب العيس وأيضًا العيش.
“لقد تحقق لي أني لا أصلح بطبعي للتقدم إلى أي امتحان ذلك أن الامتحان يريد مني عكس ما أريد أنا من القراءة، إني أقرأ لأهضم ما قرأت، أي أحلل مواد قراءاتي إلى عناصر تنساب في كياني الواعي ..أما الامتحان فيريد مني أن أحتفظ له بهذه المواد صلبة مفروزة”
توفيق الحكيم
زهرة العمر
نحن القراء نعلم أنها ملاذ ولا مناص من ذلك السؤال اللعين، لماذا تقرأ؟ نحن أبدًا لن نجد تلك الإجابة التي ستقنع من أمامنا أن العيب ليس في الإجابة، بل في غرابة السؤال، نعم إنه سؤال له العديد من الإجابات وتلك الإجابات لها العديد من الأوجه والتعبيرات المختلفة، وحتى بعد الإجابة يمكن أن تتعدد الإجابات لنفس الشخص، ويمكن ألا يكون السبب مقنعًا، وبالتالي سنقع في تلك الدائرة المفرغة حتى يقرأ فيستوعب كما نستوعب نحن أنه سؤال كعوامة في حريق.. لن تمنعك من الغرق ولكنها لن تنقذك من النار.. فمتى آخر مرة مرّ أحد بك في وسيلة مواصلات أو في المنزل أو العمل أو حتى بينك وبين أصدقائك ليسألوك هذا السؤال الكبير؟
إليك أيضًا:
add تابِعني remove_red_eye 9,130
مقال ملهم يجيبك عن السؤال "لماذا تقرأ؟"
link https://ziid.net/?p=74522