رواية استسلام: حين تغيرنا الظروف
الاستسلام هنا لم يكن بإلقاء السلاح، بل بإلقاء النفس البشرية بكل نقصها وانعدام مثاليتها وذكرياتها وكل ما يكونها ويجعل منها بشرًا.
add تابِعني remove_red_eye 9,129
انتهيت من رواية “استسلام” للعبقري “راي لوريغا” وترجمة البديع “محمد الفولي”. عما تتحدث؟ عن كثير من الأشياء. عما سنتحدث نحن اليوم؟ عن تلك الأشياء الكثيرة التي استنبطتها من الرواية.
فلنكن متفقين؛ فالقراءة لكتاب أو رواية هي قراءة عقل بعقل آخر، أي أنك تقرأ إنتاج خيال أو تفكير عقل ليس عقلك ولكنك تفسرها بعقلك أنت.. فتخيل كم فردًا سيقرأ تلك العقلية بعقليته! كم تفسيرًا سيتم الاتفاق عليه! كم من آراء ستخرج للنور! كم ستختلف! نعم ستختلف في بعض النقاط وتتفق في بعض، ولكن في النهاية لا يمكننا أن نعتبر واحدًا من تلك الآراء صحيحة والآخر غير ذلك.
قبل أن أبدأ، أريدك أن تعلم أن تلك الرواية تم ترجمتها عن اللغة الإسبانية، كما أنها حازت على جائزة “ألفاغوارا” للرواية لعام (2017م). بداية، كنت أستغرب عنوانها الذي لا يمتّ بصِلة لأولى صفحاتها.. “استسلام”. تبدأ الرواية بزوجين، أحدهما الراوي وهو الزوج. يروي أن الحرب مشتعلة منذ مدة طويلة، حتى أن ابنيهما ذهبا ولم يعودا .. متى ستنتهي؟ من الذي يفوز؟ لا أحد يعلم. أين الاستسلام إذا؟ لا ليس الآن..
يتضح مع الوقت أن الاستسلام ليس في الحرب التي تشتعل بين أطراف لا يعلموا من هي، بل الاستسلام في شيء آخر. فالاستسلام هنا لم يكن بإلقاء السلاح، بل بإلقاء النفس البشرية بكل نقصها وانعدام مثاليتها وذكرياتها وكل ما يكونها ويجعل منها بشرًا. أتلقى نفسك القديمة فقط من أجل ماذا؟ هذا هو عنواننا وموضوعنا. حينما تنظر للنبذة الموجودة في دفة الكتاب من الخلف، تلك النبذة التي تعطيك فكرة عن العالم الموجود بداخل الكتاب.. نرى بدايتها كالتالي.. “مَن نحن حقًّا حين تغيرنا الظروف؟” إذن ستتغير الظروف؟
الأحداث
بعد أن نتعرف على الزوجين، وابنيهما اللذين ابتلعتهما الحرب، ولم تعد وحدات النبض والتي يمكنها أن ترصد قلبيهما وكأنك تجلس على صدريهما لم تعد تعمل بأمر من الحكومة، يظل الزوجان في حياتهما حيث تشح الموارد وتتغير الحياة للأسوأ ببطء حتى يأتي طفل جريح للبقاء معهم .. وهكذا يصبحون ثلاثة في وجه المجهول. تصبح الحرب أحيانًا هي الجامع بين البشر، فلواء الخوف هو ما يجمعهم.. الخوف من المجهول أو الخوف من الموت أو حتى الخوف من فقدان الإنسانية، فأنت لا تنوي أن تحلل ما أنت مقدم عليه خاصة لو كان معتمًا ولا يبشر بالخير.. أليس كذلك؟
يوم الأجلاء
تقرر الحكومة أن تجمع رعاياها لكي تنقلهم لمكان جديد بدون سبب وجيه، وبدون معرفة ما الذي حدث؟ وبعد معاناة كثيرة من حرق وحذر وإنسانية تقل بزيادة الأخطار، ومع كل خطوة يحدث فيها أن تفوز غريزة البقاء على التمدن، يصل راوينا الحكيم وزوجته والطفل الذي معهم لمكانهم الجديد “المدينة الشفافة”.. هل شاهدت تلك القبة التي في المسلسل هي التي في الرواية مع اختلاف كبير .. نعم كما قرأت هنالك اختلاف كبير حيث إن القبة ليست وحدها الشفافة، بل كل ما يوجد بالمدينة شفاف.
مدينة كاملة تحتوي على مدارس ومكتبات ومشافٍ و قطارات ومبانٍ سكنية وكلها شفافة! حسنًا أترك المقال دقيقتين لتتخيل، إذا دخلت الحمام فأنت مكشوف، إذا حاولت أن تختبيء -فحرفيا- لا مكان حيث الجدران وحتى المواسير التي تحمل الماء شفافة، أنت تعيش في الزجاج وتحت الزجاج. مدينة تحتوي على درجتين كبيرتين من الشفافية والمثالية.
الراوي بداخل القبة
عندما يذهب الراوي للمدينة الشفافة التي تقع أسفل القبة، تبدأ فعلًا وبالنسبة لي الأحداث الفعلية والمرتبطة بعنوان الرواية القصير والمعبر. نرى كل شيء شفافًا.. نهار دائم.. لا ليل ولا أمطار، باختصار عالم جديد من صنع الإنسان، يحتوي على بشر من العالم الطبيعي الذي احتوى على ظلم وليل ونهار وحيوانات وأنهار وبحار وثعابين، كما احتوى على الخصوصية واحتوى على النقص واحتوى على القتل والاختباء واحتوى على الوضوح المشوب ببعض الستائر والحوائط.
هل تغيرنا الظروف؟
عبقرية لوريغا تتمثل في أنك ستدرك في منتصف الرواية أنك لا تعلم ما الواقع وما الخيال؟ ستتخلى عن المنطق للحظات قبل سطور الرواية الأخيرة فقط لتدرك أن الديستوبيا التي خلقها لوريغا إنما خلقت لكي تضعك أمام نفسك، ونفسك وحدها هي من ستواجهك. هل تصدق؟ أم لا؟ وحين تصدق ما يحكيه راوينا مجهول الهوية، هل سترى ما يراه؟
هل ترى أننا لا نستطيع أن نعيش في عالم شديد المثالية؟ حيث لا أطماع؟ لا جشع؟ لا حقد؟ لا خصوصية ولا أسرار؟ لا أحلام؟ فقط روتين وطعام ومأوى ثابت.. لا أحداث ولا أخطار ولا حروب ولا أفكار شخصية ولا حتى هموم وطموحات؟ أنت تعمل لا للنقود ولكن لأنك تعيش تحت القبة، كل شيء مجاني ولا داع للمنافسة على منصب فأنت مالك العمل.. لا داع لكي تقلق على الجعة الباهظة فهي مجانية.. لا داع لشراء شيء فكل شيء متاح لك فأنت مواطن القبة الحبيب الذي يبقيها ببقائك بداخلها دون خصوصية وبكل مثالية.
يرى الراوي أن العالم داخل القبة يسير بطريقة غير صالحة لطبيعة البشرية، فيشك أن طبيبًا أعطاه علاجًا لكي يتأقلم، ثم يفكر في الماء. فالماء هنا يمنع الرائحة فلماذا لا يغسل العقول أيضًا؟ يمتنع الراوي عن الاستحمام أو الشرب لكي يعود لطبيعته غير المثالية، لكي يعود الإنسان الذي لا يريد البقاء في القطيع، لكي يصبح هو مجددًا بدلًا من قبول وضع لا يصلح إلا للذين فقدوا أدمغتهم من كثرة الاستحمام وشرب الماء.
وهنا يأتي دورك عزيزي القارئ.. هل ستصدق؟ ماذا ستعتقد؟ بل على وجه التأكيد أنك ستضع نفسك مكانه. هل هو فعلًا بين تلك الحوائط الشفافة يحارب من يريدونه أن يكون فقط ترسًا ليقيم في المدينة الفاضلة التي لا يوجد بها ثورات؟ أم أنك ستقول إنه مجنون يحارب طواحين الهواء وأنه دون كيخوته تحت القبة؟ ما الذي حدث؟ أين زوجته وابناه؟ بل أين الصغير الذي تم إيوائه قبل الرحيل عن الطبيعة والمنزل القديم؟ من فاز بالحرب؟ مَن صنع القبة؟ من يحكمها؟ من هؤلاء؟ من يوزع الأدوار؟
هل لله مكان؟
هناك تلك الفقرة الصغيرة عندما يبدأ الراوي برفض التأقلم والانهيار، فيذهب للطبيب، حيث ينصحه الطبيب بالذهاب لمستشار حيث لا وجود هنا للقساوسة أو أطباء علم النفس!! كيف تطورت هذه القبة بمن أسفلها حتى ترفض الرب والعلم؟؟ الاثنين معًا؟ هل يقول لنا لوريغا أننا سنفقد كل ما نحارب لأجله مستقبلًا لنكون كفئران التجارب؟ محصورين في منطقة أسفل غطاء حام من الطبيعة؟ نعيش كدائرة مغلقة بدون التفكير في أسئلتنا الوجودية عن وجود أحد ما في السماء؟ أو اكتشاف ما بداخلنا؟ هل سنصل لدرجة العلم التي سنكون معها فقط نتعايش ولا نفنى ولكننا في الوقت نفسه غير مهتمين بما نحن عليه أو من صنعنا؟
هل المأوى والطعام كافيان؟
يتساءل الراوي عن إمكانية استفاقة من هم تحت القبة كما فعل هو ليروا أن المأوى والشراب والملبس والرفاهية المفرطة ليست سوى جحيم وحرب ضد البشرية لا يجب أن نستسلم فيها.
يتساءل هل هو الوحيد الذي رأى فيما وراء المثالية والاكتفاء؟ بل يلمح الراوي أن تلك المثالية والرفاهية والوضوح الشديد هو ما جعلوه يستفيق؛ حيث إنه دائمًا ما تربى على الأخذ والعطاء والحذر وليس فقط أن نعيش دون تفكير في الغد، فمنذ طفولته وقد كان يحمل سلاحًا للدفاع عن حيواناته، كان يعمل ليجني مالًا، كان يتعلم ليجعل زوجته فخورة. كان يقلق من غرق المحاصيل من الأمطار، ألا يعود ابناه، ولكن الآن ماذا؟
تلك الرواية التي لن تفهم من خلالها غير أن البشرية غير مفهومة ويمكنها أن تدمر نفسها في أعتى لحظات مثاليتها، تلك الرواية جعلتني أتأنى وأنظر، بل ونهايتها التي لن أذكرها جعلتني أفكر مائة مرة قبل أن أقول إن الراوي على حق أو أنه مجنون.. هل كان؟ أم أن المياه قد غيرتهم؟ هل يوجد قبة؟ أم أن الحرب لا تزال بمكان ما؟ لعلها بداخلنا ولا ندرى .. هل قرأتها؟
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 9,129
قراءة في رواية "استسلام" للعبقري "راي لوريغا"
link https://ziid.net/?p=76640