قراءة في رواية: الأشجار واغتيال مرزوق – عبد الرحمن منيف
يأخذنا المنيف جولة في عوالم جافة، موحشة لا يصنعها سوى الشقاء والجري المحموم وراء السراب في رواية الأشجار واغتيال مرزوق
add تابِعني remove_red_eye 11,914
عندما أتجهز لقراءة عمل للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، أعرف أني أمام جرعة كبيرة من الكآبة، أستعد لدخول عالم مصنوع من التعاسة والشقاء، وهذا ما كنت أتحضر له عند شروعي في قراءة روايته الأشجار واغتيال مرزوق، لأتفاجأ أني أمام عمل في منتهى العذوبة والجمال، برغم ما يحتويه من تغرب وخذلان وأشياء قابلة للضياع في طريق الحياة المزدحم.
يقول الكاتب التشيكي ميلان كونديرا في روايته (كائن لا تحتمل خفته)
إن حياة واحدة لا تكفي لنجرب كل الخيارات المتاحة أمامنا، فكل خيار صغير نفعله يغير بشكل ما في مسار حياتنا، فلنجرب كل الخيارات ونسلك طرقًا عديدة، ونقضي وقتًا للتعلم والندم والحب، يلزمنا وقت أطول مما هو متاح.
وهذا ما حدث في رواية الأشجار واغتيال مرزوق، ففي قطار يجتمع كل من منصور عبد السلام (الأستاذ الجامعي المثقف المطرود من الجامعة لأسباب أمنية)، مع إلياس نخلة (الرجل الريفي البسيط الماجج بالحياة والحرية)، الاثنان يتشاركان نفس المقعد في قطار الدرجة الثانية، قد يكون القطار رمزًا للحياة التي تنطلق للأمام بشكل مستقيم غير مبالية بمن فيها، فهي لا تترك لهم فرصة سوى مشاركة قصصهم المؤقتة.
الحيوات المتعددة كما صورها المنيف
يروي إلياس نخلة حكاياته الغنية بالحب والفقر والترك، فإلياس المطرود من جنته المليء بالأشجار وكأنه آدم، بعدما تعلق بها وكأنها أطفاله، يتخلى عنها بتهور يشبه الحب المحموم، كما فعل أبو البشرية آدم، ليشعر بعدها بندم يرميه في غياهب التيه والترحال. ولكن في كل مرة يعود إلى قريته الصغيرة الجافة، وكأنها وطنه الصغير، الوطن هذا الوشاح الأسود الذي يلبسه الجميع، وبرغم أن وطنه لم يعامله برفق أبدًا، فاقتلع أشجاره وقتل امرأته، وانتزع منه أسبابه للبقاء حيًّا، إلا أنه كان ظل يرجع بعد كل رحيل.
يتساءل إلياس: ماذا لو لم يتنازل عن أشجاره؟ أكان الآن سعيدًا؟ لن ينعزل ويذيق نفسه مرارة الخزي! أي طريق سيسلك لو لم يرحل؟ لو لم يتزوج مرة تلو الأخرى؟ لو لم يجرب الحياة كما فعل، فحين يتساءل الأستاذ الجامعي المعذب منصور عبد السلام، ماذا لو كان له ما كان لإلياس نخلة، لو له أشجار، وأرض وحبيبة يهواها، وأن يستعيض عن جميع قصص حبه غير المكتمل بقصص إلياس؟ لماذا يهوى الإنسان تعذيب نفسه، ألا يكفي ما يراه من تعذيب؟ لماذا يجوع الناس في أوطانهم؟ يتساءل ويتساءل بإحباط مرّ، ولكنها الحياة لا تتيح لك تجربة سوى ما عليك تجربته.
الشيء الوحيد الذي لا حدود له هو الحلم، فالأحلام بلا قيود يا صديقي، كما يقول إلياس نخلة، يمكنك أن تحلم بأي شيء وكل شيء، ففي الحلم لك الحرية المطلقة، دون قيود أو رقابة، يمكنك أن تحلم بوطن هادي أو حب دائم، يمكنك هناك أن تفعل أي شيء.
يصف عبد الرحمن منيف ببراعة شديدة عوالم الاثنين المختلفة، برغم تشاركهما في نفس البؤس والفقر في فترة ما في حياتهما، وبرغم الفجوة الثقافية بين الرجلين، إلا أن الأستاذ الجامعي المنهزم لتماسكه بأفكاره، ينبهر بحياة الفقير ويتمنى لو أتيحت له الفرصة، ليتشرب الحياة ببساطة، بنفس عناء إلياس الممزوج بالصبر والحب والألم.
يغادر إلياس القطار، ويترك منصور عبد السلام وحيدًا يفكر في حبيباته وانهزاماته المتكررة، في ماضيه المؤلم الذي لم ينقذه منه سوى حبه للكتب والقراءة، ولم تصلبه سوى أفكاره على جدار الوطن البخيل.
يعلمنا المنيف أن الذكريات هي التي تحرك الإنسان، تسعده وتشقيه، تساعده على احتمال الأحزان أو الغرق فيها. ففي كل عمل للمنيف، أنبهر بسرده للنفس البشرية البسيطة منها والمعقدة، طريقة سير القصة بلا ملل مع السقوط بداخلها بسهولة تامة، تعبيرات إلياس نخلة عن أحزانه ومصائبه وهو الفقير الجاهل، وانتزاعه لحقه من فم الحياة الموحشة، وغرق الأستاذ الجامعي في تحليلاته عن نفسه والآخرين، يسرد المنيف القصص علي لسان شخصياته وكأنه هو.
رواية لا تتعدى (380) ورقة، ستأخذ أنفاسك، لتستمتع بسلاسة السرد والحكاية، وتشارك الشخصيات مشاعرهم المتعددة، لعلك ترى نفسك في واحد منهم.
إليك أيضا
add تابِعني remove_red_eye 11,914
قراءة في رواية الأشجار واغتيال مرزوق
link https://ziid.net/?p=66079