في ذكرى نجيب محفوظ (أديب حثّني على الكتابة)
أول الروايات التي تناولتها من الرفّ العالي كانت روايته "خان الخليلي" ومن هناك بالضبط قررت أن أكتب. عن عالم نجيب محفوظ وأبطاله
add تابِعني remove_red_eye 61,969
حينما بدأت القراءة بدأت من الأسهل؛ المكتبة الخضراء، أولادنا، سلاسل القراءة للمراهقين في العاشرة تقريبًا، ولكن الرواية الأولى التي أخذتها من ذلك الرفّ العالي حينما طالته يدي، كانت رواية “خان الخليلي” لنجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل.
في العاشرة -وبعقل الصغيرة- كنت أقرأ الرواية بسعادة غامرة، لم أفهم تلك التعقيدات في الأبطال والتي عرفتها حينما كبرت، لكن القصة أعجبتني، الرجل الحانق الذي يكره أحدًا لأنه فقط غلبه؛ لأنه أظهر أنه يحوز ثقافة أكثر منه، لقد كنت أشبه ذلك الرجل بشكل ما، فقد كنت أحمل الرواية معي إلى الفصل، أفتحها في فترة الراحة أثناء انشغال الجميع باللعب، وحدي أنا أمسك برواية محفوظ بين يدي، وحدي أنا القارئة الجيدة.
في الصف وفي درس القراءة عن جائزة نوبل وقبل أن يبدأ المعلم في قراءة الدرس سأل سؤالًا، هل تعرفون أشخاصًا فازوا بنوبل قلت له: أنا أعرف، الرئيس السادات، العالم أحمد زويل، والكاتب الكبير نجيب محفوظ، ويومًا ما سأحصل أنا أيضًا عليها، لم أسلم من تعليقات الزملاء من حولي عن البنت التي تحلم بنوبل، لكنني تجنبتهم وصَمتُّ، فسألني المعلم في أيّ مجال تخططين الحصول على نوبل.
قلت ببساطة: في الأدب، فنظر الجميع لي بتعجب، في اليوم التالي فكرت أن أكتب قصصًا وأن أحكي حكاية، كانت حكايتي عن الحيوانات بادئ الأمر، لا بأس ربما كتب نجيب محفوظ أيضًا عن الحيوانات، ضحكت أختي من سذاجة الفكرة، وقلت أنا: ليتني أقابل نجيب محفوظ لأسأله ماذا كتب أولًا، ليجيب علي حواره في كتاب “بيت حافل بالمجانين” أن أول أعماله كانت قصة “عبث الأقدار” والذي كان الأول في سلسلة من ثلاثة أعمال تاريخية تدور أحداثها في زمن الفراعنة، وقد كان من المقرر أن تكون تلك سلسلة ومشروعًا يضم الكثير من الروايات لكنه نبذها، وعمل على روايات معاصرة وكانت أولاها خان الخليلي والتي صودف أنها أول أعماله التي قرأتها.
“الكتب تهيئ للإنسان الحياة التي يهواها” خان الخليلي
في العام الذي بدأت فيه كتابة أولى قصصي بناءً على حبي لرواية نجيب محفوظ وحلمي أن أراه وأن أقول له أنني أحببت الكتابة بسببه، توفي نجيب محفوظ فبينما أبدأ أن في يونيو أولى قصصي يموت نجيب في (30) أغسطس من ذلك العام (2006م) لم يكن نجيب محفوظ روائيًا عاديًّا، لقد كان كاتبًا وفيلسوفًا، تنطلق فلسفته من ألسنة أبطاله الذين ينطقون بما يمليه عليهم، وكذلك كان نجيب محفوظ مؤرخًا.
ففي كتابته تقرأ الفلسفة والتاريخ، تغوص في داخل النفس البشرية وتشاهد تعقيداتها، كما أنه يسوق لك الحكاية الاجتماعية بشكل دقيق، يصف كيفما يصف ولكنك تظل مشدوهًا إلى كل ما يقال لا تريد أن تفلت خيطًا واحدًا مما كتبه أو يكتبه، تحار فيما يقدم إليك. في عالم نجيب محفوظ وبناءً على ما صرح به، لا يوجد بطل إنما الموجود دائمًا شخصيات فحسب، شخصيات بشرية بكل فسادها وجمالها، تكبرها وتجبرها.
ففي الثلاثية حيث السيد أحمد عبد الجواد الذي يسوق مبررًا لكل ما يقوم بفعله، يبرر أفعاله بمبررات حسنة، فهو الذي يصوم ويصلي وكذلك يشرب الخمر ويحضر مجالس اللهو، فهو في البيت الرجل الشديد الذي لا يتهاون في أتفه الأشياء، وفي مجالس اللهو يضرب بيديه الدف، فلا تعرف هل تحبه أم تكرهه، وحينما تمضي بك الحكاية إلى أخرها ستجد نفسك تتعاطف معه، ولكن في النهاية ستقف متسائلًا: من كان البطل؟ هل هو السيد أحمد عبد الجواد بجبروته، أم أمينة عمود البيت وسيدته.
في ثلاثية القاهرة، تشعر أنك هناك بالفعل في تلك اللحظة يعبق أنفك بروائح البيت الطيب وتخاف من غارات العدو فوق رأسك.
فائدة أن تقرأ لمحفوظ
في سنتي الأولى بالجامعة كانت زميلتي في السكن في كلية الآداب تدرس رواية محفوظ “زقاق المدق“.
لم تكن تحب تلك المادة حينها فأخذت أنا منها الكتب، وكنت قد قرأت الرواية وشاهدت الفيلم، لقد كنت أحب تلك الرواية لأنني كنت أرى أن بطلتها طموحة، على الرغم من أن طموحها كان مهلكًا، ولكنه الطموح حينما يجتمع مع الجهل يشكل ثنائيًّا مرعبًا قادرًا على إهلاك الشخص، حينها شرحت لها تلك المادة، ولقد كانت تخبرني أنني سأصبح ذات شأن لاجتهادي، لكنها لم تكن تعرف أن ذاك الاجتهاد حصري لنجيب محفوظ فقط ولا أحد غيره، كنت أخبرهم في جامعة الأزهر حيث أدرس لو أننا ندرس روايات نجيب محفوظ لصرت معيدة في تلك الجامعة لكن صديقتي كانت تضحك مني، فمن يدخل محفوظ جامعة الأزهر؟!
أولاد حارتنا، ما ذلك الذي أقرأه
قبل حادثة الجامعة وأثناء فترة الدراسة بالثانوية، جاء أخي إليّ بالكثير من الكتب، بين الكتب كانت هناك نسخة قديمة من رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ وعلى الرغم من أن تلك النسخة كانت قديمة إلا أنها مازلت تحتفظ برونقها، يومها قلت كيف يتخلى أحد عن رواية لنجيب محفوظ، ولكن حينما قرأتها قلت ربما لم يفهمها هذا الشخص وقرر كما قرر الجميع أنها رواية تعج بالمعصية، أو كما قال أستاذ عنه (لم يعطوا لنجيب محفوظ الرواية إلا لأنه مثل الله في روايته).
في الحقيقة حينما تبدأ في قراءة الرواية، الجبلاوي وأبناؤه أدهم وإدريس، أدهم الذي يتسبب في طرد إبليس من قصر الجبلاوي، ثم بعد ذلك تظن أنها إعادة تقديم لقصة خلق آدم، ولكن في الحقيقة أن الإسقاطات ليست دائمًا صحيحة، وأن الرواية لا تؤخذ من ذلك الجانب أبدًا، وأنك حينما تقرأ الأدب فحذار من أن تسقطه على الواقع، لأن للقصة خصوصية تفرضها على نفسها، لا يصح أن تقيسها بالواقع أو تسقطها عليه. لذلك يظل ذكر نجيب حرجًا قليلًا لدى المتدينين، ولكن يبقى هو لي وللجميع رمزًا يحتذى به، لقد كان كاتبًا على الرغم من وظيفته، وقارئًا على الرغم من انشغاله، لم يكن نجيب يسعى إلى الشهرة والمال، بل كان يسعى للكتابة وحسب.
يقول نجيب محفوظ :
“منذ الثامنة إلى الثانية كنت أعمل في الوظيفة، ومنذ الرابعة إلى السابعة أكتب، ومنذ السابعة إلى العاشرة أقرأ”
فخلف كل ذلك التراث الأدبي العظيم، كان هناك قراءة وكتابة بلا انقطاع.
“إن خرجنا سالمين فهي الرحمة وإن خرجنا هالكين فهو العدل” أصداء السيرة الذاتية
لم يكن نجيب محفوظ يحب الزحام أو الأضواء والحفلات لو كان بيننا الآن لما ظننت أنه سيقوم بعمل صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى حفلات توقيع، لم يسع خلف الشهرة أو المال، ولكن إذا أتت الشهرة والمال فلا بئس، سيقول أحدهم لعل الحياة تعطي من لا يريد ما يريد، ولكني أقول أن المجتهد والمبدع سينال التقدير، حتى لو لم يسع وراءه، وها نحن هنا عامًا بعد عام، ونجيب محفوظ في وجداننا سواءٌ كنت تحب أن تقرأ له أو لا تحب، فلن يمكنك أن تنكر أنه نموذج لن يتكرر، وأن مشروعه سيظل عمودًا من أعمدة الأدب المصري.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 61,969
مقال هام عن أدب نجيب محفوظ ولماذا يجب أن نقرأ له
link https://ziid.net/?p=67185