القوالب والصور النمطية في السينما المصرية
تكمن خطورة التنميط في إطلاق أحكام مسبقة ومتسرعة على الآخرين بناء على الصور المُختزلة وليس على الواقع، وهنا تبدأ مشكلات المجتمع
add تابِعني remove_red_eye 2,364
نُعاني على الصعيد المُجتمعي من “التنميط” وهو صنع صور نمطية حول فئات مختلفة في المجتمع واختزالها في قوالب مُسبقة، وهذا يؤثر على الأفكار والانطباعات تجاه الآخرين ويُحدث تقسيمات مجتمعية ومناطقية وطائفية وهو ما يولّد العنصرية والعنف والتنمر. لقد عززت السينما بعضًا من الصور النمطية، بل دعونا نكون أكثر دقة ونقول: إنها اختلقتها وغذّتها في المجتمعات عبر عقود طويلة، وفي الحقيقة يصعُب الجزم إن كان هذا الأمر مُمنهجًا أم أنه وليد القصة والحبكة والفن. إلا أن ما يمكن الجزم به -بشكل أو بآخر وإن كان بقصدٍ أو بدون قصد- نتيجةُ التنميط الجليّة في تشكيل آراء وأفكار الأفراد وأحكامهم تجاه الآخرين، وهو ما نمّته السينما في اتجاهات عدّة.
بين التشدّد والانفلات
عمدت السينما إلى إظهار صورة الرجل المتديِّن لسنواتٍ عدَّة إما إنه إرهابي ينتمي للجماعات الفكرية المُتطرفة أو إنه متشدّد ومُتزمت في جوانب الحياة المختلفة، ويمثل الدين عبر لحيته الطويلة وثوبه القصير عوضًا عن أفعاله وأخلاقه، وفي الحقيقة أنه لا بد من أننا صادفنا وسوف نصادف أمثال أولئك إلى يوم يبعثون، هؤلاء الذين هم عبارة عن برواز جامد للدين متجردين من روحه وأخلاقه.
إنما كان من الإجحاف الاستمرارية في إظهار هؤلاء الزمرة من المتعصبين بنفس القالب وسمات الشخصية بشكل دائم لعقود دون إظهار الجانب الآخر، أو لنقل الجوانب العدّة من التدين باختلاف درجاته الوسطية المُعتدلة وهي الأغلب في مجتمعاتنا، تم إظهار المُتدين (المتشدّد) الوُصولي الإرهابي وفي المقابل المنفتح (المُتفلت) طيب القلب رقيق المشاعر فأظهرت السينما الجانب المُتطرف على الصعيدين وغابت عنها الوسطية، وأن الدين يأتي مع اللين واللطف وتقبل الآخر كما أن انعدام الأخلاق يأتي مع التدين المُزيف.
وشَهِد شاهدٌ من أهلها
شاهدت قبل سنوات مقابلَة تلفزيونية ظهر فيها الموزع الموسيقي والمنتج المعروف حسن الشافعي ينتقد الصورة النمطية التي صنعتها الأفلام المصرية عبر سنوات عن الرجل المُتدين وإظهاره دوما بصورة متشددة، وبَدَا مُنزعجًا من ذلك، والحقيقة بحثت عن المقابلة لأنقل كلامه حرفيًّا إلا أني لم أجدها، والهدف من الاستشهاد بكلام رجل من الوسط الفني له ثقله و وزنه تأكيدًا على المعنى الذي أَودّ إيصاله.
تكمن المُشكلة في جيل ينشأ منذ صغره على هذه الصور النمطية ليتم اختزال الدين بالتطرف والإرهاب، ونجد في نهاية الأمر جيلًا ينفر من الدين ويُبغض المتدينين، بل ويجعلهم في مرمى تصنيفاته وأحكامه المُسبقة، ومع هذا فأنا لا أنكر بأننا عانينا ومازلنا نُعاني من الفكر المتطرف الذي غسل أدمغة بعض شبابنا إلا أن الحرب على التطرف الفكري يجب أن لا تَضِل هي الأخرى وتُنْشِئ جيلًا متطرفًا من نوع آخر، وهكذا نظل في دوّامة التطرف والتشدد بأشكاله وألوانه.
من ناحية أخرى فأنا لا أجد حرجًا من تقديم شخصية رجل مُلتحٍ متطرف ولا يعرف من الدين إلا القشور، تكمن مُشكلتي في الإصرار مرة تلو أخرى على تقديم هذه الشخصية الوحيدة كنموذج للرجل المتدين.
وعندما نقول الإصرار فنحن نتحدث عن البداية من فيلم (إسكندرية ليه) عام (1979م) الذي حمل مشهدًا واحدًا خجولا وغير مباشر مرورًا بالفيلم الشهير (الإرهاب والكباب) عام (1992م)، ومن ثم (الإرهابي)، (دم الغزال)، (جواب اعتقال)، لقد بحثت بجانب بعض الأفلام التي شاهدتها فوجدت قرابة الـ (15 فيلمًا) جمُع فيها بين الرجل المتدين والإرهاب والجماعات المُتطرفة على مدى (4) عقود وكنت أنتظر أن تكون هُناك أفلامًا موازية تُظهر الرجل المُتدين أو رجل الدين متمثلًا بالدين السّمح الذي نعرفه ونعتنقه إلى أن شاهدت فيلمًا يتيمًا مختلفًا.
فيلم (مولانا) 2017م
كان أول فيلم في السينما المصرية –على حد علمي– يتحدث عن رجل دين مُعتدل وسطي مُتسامح، لا يقبل أن يستخدم الدين لمنافعه الشخصية، على درجة عالية من تقبل الاختلاف الذي يجعله يُحاور أتباع الأديان الأخرى ويُناقشهم. وجدت نفسي مشدوهةً ومُعجبة أثناء المشاهدة بأن السينما تمكنت أخيرًا من تقديم فيلم على هيئة اعتذار خجول عن الإساءات التي طالت المُتدينين سابقًا وإن كان –في نظري- عمل جيد إنما غير كافٍ.
فليس باستطاعة القطرة مواجهة السيل الجارف، وإن كان الفيلم أيضًا من نوعية الأفلام التي تُحْدِث جدلًا فكريًّا حولها، وتنبش أسئلة كثيرة حول الدين في رأسك –وهي حالةٌ صحية– إلا أنها خالفت الصورة النمطية السائدة عن الدين والتدين التي عملت السينما على تكريسها لسنواتٍ طويلة. يجدر بالذكر بأن الفيلم هذا أيضًا تحدث عن الفكر المتطرف لكني لم أجد غضاضةً في ذلك حيث إن الصورة المُقابلة وهي (الاعتدال) كانت حاضرة واضحة وجلية، إذًا سيكون ذلك مقبولًا حينما تُقدِّم الوسطية -وليس الانفلات- مقابل التطرف.
لم يقتصر الأمر على التدين
التنميط لم يمس التّدين والمُتدينين فقط –ولو أن الجزء الأكبر كان من نصيبهم– امتدت الصور النمطية لتشمل عدة فئات في المجتمع، لقد قُدمت في السينما شخصيات ترمز لمناطق جغرافية معينة ورسخت بأذهاننا بصورة نمطية مسيئة، امتد ذلك لألوان البشرة واللهجات وسمات الشخصية والأوصاف الجسدية أيضًا.
على سبيل المثال: شخصية البدين
وهي من أكثر الشخصيات التي تعرضت للتنميط في السينما، إنسان شَرِهٌ يمكنه أن يتخلى عن جميع أقربائه مقابل وجبة واحدة من الطعام، متبلد المشاعر، قدراته العقلية متواضعة، يتخذه أصدقاؤه أضحوكة جلساتهم ويكون في مرمى نكاتهم طيلة الوقت. ولا أعلم إن كنت الوحيدة التي لا تضحك أمام مشهد البدين الذي يأكل بشراهة، وأجد أن صنع النكتة على حساب صفات الآخرين الجسدية وهيئاتهم الخَلْقية أبعد ما يكون عن الكوميديا وصورة مبتذلة جدًّا ولم تعد مقبولة، بل يمكننا أن نعدها موادَّ خصبة للمتنمرين وأشباههم.
الفنّ ترياق الحياة
بصراحة أنا من أولئك الذين يجدون في الفنون بكل أنواعها عزاءً عن كل إساءاتِ الحياة ومواساة طويلة الأجل لكل الخيبات التي تعتري طريق الحياة الطويل، ولا أستطيع بكل جدية تخيّل الحياة بلا فنّ إلا شاحبة وجامدة، لأن الحياة التي طُبعت على كدرٍ لا بُدّ أن تعجن رُوحَها بالشعر والموسيقى والسينما لتضيف لها لونًا ونكهة وجمالًا ينزع عن وجهها البؤس والكآبة.
وكل هذا لا يصنع للفنّ قُدسيةً أو كمالاً فوق النقد فبالطبع للفن –أعني هُنا السينما على وجه التحديد– سقطات كثيرة وأخطاء وتوجهات غير صحيحة، إنما لا زال المتلقي يمتلك الخيار والقدرة على التّمييز في ألَّا يكون مجرد أداة جاهزة للتلقين وضخ الأفكار كيفما كانت، والمتلقي معنيّ أيضا بمن هم تحت جناحه الإرشادي والتربوي وفتح باب التواصل والحوار معهم لمعرفة رؤيتهم ومدى تأثرهم بما يتلقونه.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 2,364
مقال مثير حول التنميط وما تخلقه الدراما والسينما من صور مغلوطة عن بعض الفئات
link https://ziid.net/?p=60633