كيف استطاع دستويفسكي فهم أفعال السجناء؟
تقول الحكمة الروائية القديمة: إذا أردت أن تفهم شيئا، فقط اجعل شخصًا يعاني. أو كما تقول الجدة: " كُتْر الشقا بيعَلِّم"
add تابِعني remove_red_eye 2,365
دستويفسكي، يجعل ألكسندر بيتروفيتش يقتل زوجته ليأخذه إلى عالم غريب جديد عليه هو النبيل. عشر سنين يمكثها ألكسندر في السجن، عشر سنين كسكين تتمشّى على الجلد، يخرج منها مهللا: بُعثتُ من الأموات. ولكنّ هذه السنون لم تتركه، لم تتركه حتى كتبها مذكرات. مذكرات متاهة، لا تعرف أولها من آخرها، عجيبة! تحاول أن تستوعبها كلّها فتجدك غريقًا في شخصية من شخوصها. وتتساءل من طول السرد، هل هي رواية كأي رواية؟ أي لها تركيب يمكن أن نفهمه؟ أم هي مجرد خواطر تجري؟
سأعمل هنا – بإذن الله – على وضع الإطار الرئيسي الذي نرى منه الرواية كعمل فني.
الخيط الذي يغزل الرواية
دستويفسكي جعل ألكسندر نبيلًا يدخل إلى أناس من عامة الشعب مختلفين عنه في الثقافة، وأيضًا جنايةً فهو مذنب وهم مجرمون، ليجعله يعاني طوال السجن من الخنقة والغربة والوحدة. وهذه المعاناة هي حكاية المذكرات.
زمان الرواية
يقول ألكسندر إن الذكريات الحية في ذهنه من حياة من السجن هي الأسابيع الأولى، أما بعد ذلك غامضة لأنه قد تعوّد.
فصول الرواية
تنقسم الرواية إلى جزأين، الأول يضم: البيت الميت، الإحساسات الأولى، الشهر الأول، معارف جدد – بيتروف، رجال حازمون – لوتشكا، إشعيا فوميتش – الحمام – قصة باكلوشين، عيد الميلاد، التمثيل.
الراوي المعلِّل
دستويفسكي جعل ألكسندر نبيلًا مثقفًا يعاني، ليس فقط ليحكي معانته في مذكرات، بل ليستطيع تعليل كل الأفعال الغريبة والشاذة للسجناء. وهذا ما يجعل السرد طويلًا. وهو يستعمل لذلك التصوير الجسمي، وتصوير الأفعال، وتاريخ الشخصيات، ليستطيع تعليل أفعالهم. والمعاناة المشتركة وهي الخنقة.
البيت الميت
وضع هذا الفصل قبل بداية حكايته، ليريك الظروف التي تحيط بالسجناء لتسطيع تصور الحياة التي سيحكيها. ولكن رغم محاولته أن يصور الظروف تصويرًا مجردًا إلا أن هذا دائمًا يأخذه للكلام عن معاناته. فحين يصور غرفة سجنهم وأنه يرى من نافذتها طرف السماء، يقول إنه يتخيل دائمًا السماء الحرة الطليقة. وهذه مشكلة الخنقة.
وحين يصف اجتماع السجناء في الليل في غرفهم، يصف بشاعة هذا الاجتماع، ثم يقول إنه لا يعرف كيف تحمل هذه الحياة. وهذا كله يدل على المشكلة النفسية وهي الغربة والوحدة، فكل شيء حوله لا يشبه.
بداية من الفصل الثاني إلى الحادي عشر هي قصة معاناته وسكونها. هي الأسابيع الأولى، فهو هبط في ديسمبر والجزء الأول ينتهي في عيد الميلاد أي شهر. ولكن أنا سأرجعها إلى مسمياتها المتخفية وراء هذه المسميات.
الإحساسات الأولى والشهر الأول: المعاناة
أول شيء يقول إن شعوره هو الاشمئزاز وأن الحياة ليست شاقة كما كان يتوقع. ويصور ما جعله يشمئز. الغرفة التي نام فيها أول ليلة مع سجناء كثيرين طوال الليل: أسرة خشبية، وسطل لقضاء الحاجة، مع كل أنواع البذاءة. ثم صباحًا المشاجرات التي للتسلية والضجيج الذي لا ينتهي. وهذه هي الغربة. ثم الوحدة وهو أنه في ليلة دخوله رأى أنهم ينظرون إليه شزرًا، ويضايقونه، ولا يتقبلون أن يكون رفيقهم. وهذا لأنه نبيل. “النبيل خارج السجن يضطهدهم ويرى نفسه فوقهم” فيحاول أن يختلط بالسجناء النبلاء القلة.
ولكنه قد علم أن واحدًا منهم حقير وضيع، والثاني قتل أباه. فلم يعد أمامه إلا واحدًا اتخذه صديقًا. وكاد أن ينقض عليهم سكير يسخر بهما هو وصديق نبيل له، ولم يتدخل أحد من السجناء لإنقاذهم فأدرك أنهم يتلذذون بإيلامهم هم النبلاء. فلم يستطع النوم في هذه الليلة الأولى.
وحين يذهب للعمل في اليوم الرابع “السجين الجديد يذهب إلى العمل في اليوم الرابع” يكون مرفوضًا من الجميع، الكل يستهزأ به ويهينه. فيجد كلبًا وهو قافل. فيكون صديقه، عزاءه عن هذه الوحدة والغربة والخنقة بسبب الحبسة.
معارف جدد – بيتروف: هدوء المعاناة
النبيل شخص يثير المكان دائما عند دخوله، للفهم قراءة مقال سابق “من يفرض المكان الاجتماعية”، وهو بعد فترة خبا نوره، فتركه السجناء، ولم يعد محط الأنظار، فهذا الظرف الأول الذي ساعده على هدوء الغربة. ثم هو قد بدأ يتعود على ثقافة السجن التي كان تُتعبه. وهذا الظرف الثاني. أما الوحدة فقد بدأت دائرة معارفه تتسع، هو لم يكن يتعرف على أحد ولكن صار يجيئه سجناء ويتكلمون معه، وضرب مثالًا لشخص يسمى بيتروف. وأخذت تتغير فكرته كونه مرفوضًا والسجناء أشرارًا. أما الخنقة بسبب الحبسة فهي معاناة لن تنتهي إلا مع انفتاح باب السجن للخروج.
أما الحل الذي وجده سينقذه من كل هذا: العمل وحده يستطيع إنقاذي، في حين أن القلق النفسي الدائم، والتوتر العصبي المستمر وهواء الثكنة الموبوء سيدمرني كليًّا.
إشعيا فوميتش – الحمام – قصة باكلوشين: الاشتراك مع جماعة السجن
يرينا رد فعل السجناء بسبب اقتراب عيد الميلاد، وأبهجهم كان إشعيا رفيقه. وكيف انتقلت عدوى البهجة إليه. ثم صور الحمامات التي سيستحمون فيها للعيد وكيف كانت صعبة عليه هو النبيل. ثم بعد أن جاء من الحمام جلس إليه شخص يسمى باكلوشين وأصبحوا أصدقاء.
عيد ميلاد المسيح والتمثيل: الفرح المشترك مع الجماعة
وفي هذا يصف حاله وحال سجناء بداية من الفرح حتى الحزن. وهذا ما جعله حزينًا، إن فرحهم لا يكتمل، لا يلبث أن يتحول إلى منظر يثير الاشمئزاز، ومشاجرات وشتائم.. فينهي هذا الفصل وهذا الجزء قائلًا وهو على سرير النوم: لن أعيش هنا إلى الأبد، ولكن لبضع سنين فقط.
فكان هذا الجزء هو تصويره لحياة السجن. أما الجزء الثاني فليس إلا بعض المظاهر العارضة التي لم يكن بد من ذكرها وتعليلها.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 2,365
قراءة جديدة عن السجن والسجناء
link https://ziid.net/?p=84211