أولاد الغيتو: رائعة إلياس خوري المقنعة
حينما تكون اللغة هي الباب الوحيد نحو اكتشاف عوالم أخرى، يكون الأدب هو الشاهد الأكثر شاعرية عما حدث.
add تابِعني remove_red_eye 11,914
يبدأ الكاتب اللبناني إلياس خوري في سلسلته أولاد الغيتو التي تشتمل على جزئين، الجزء الأول اسمه “آدم” والثاني “نجمة البحر”. الحديث عن القضية الفلسطينية بكل ما واجهتها من ألم وتحديات.
لمن الرواية؟
ينفي الكاتب امتلاكه للرواية ويزعم أنها ملك لآدم دنون بائع الفلافل الفلسطيني، وأنه بلا شك صاحب المخطوطة الأصلية، إلا أن البعض يزعم أن الرواية ملك إلياس خوري، ولكن ذاته الحقيقية لا تتجول في روح الرواية كما يحدث في جميع أعماله السابقة.
الحكايات المتداخلة
تبدأ الرواية بسرد ساحر عن شاعر أموي يسمي وضّاح اليمني، وقصص حبه القاتل، ما بين محبوبة أكلها المرض وتخلى عنها وما بين أخرى تخلت عنه، وفي الحالتين قتل وضاح بشاعرية مفرطة لأجل حب لم يكتمل.
ينتقل الكاتب -أيًّا كانت هويته- إلى الحديث عن تجربته الشخصية في مذبحة “اللدّ” فالبطل طفل ناجٍ في طريق الهلاك الذي سلكه أهالي اللدّ بعد طردهم من مدينتهم واحتراق ماضيهم مع من حرقوا على أيادي الاحتلال. على بعد من مدينتهم ينشأ ما يسمى بغيتو اللدّ. أول ظهور لكلمة “غيتو” كانت على أحياء اليهود في بولندا، ليسهل على الناس تميز اليهود وتجنبهم، وفي بعض الأحيان سرقتهم. ومن هنا تحول الضحية إلى جلاد، فمن محارق واستبداد تعرض له يهود أوربا في الحرب العالمية الثانية، تحولوا ليكونوا هم الحارقين، ليذيقوا أصحاب غيتو اللدّ ما ذاقوه في غيتو وارسو.
ما بين الأدب والتاريخ
والأدب عكس التاريخ، أقل صلابة وأكثر شاعرية، التاريخ يستند على وقائع وأوراق مدمغة تضمن الحقيقة، إنما الأدب يروي الحقيقة من خلال عيون من شهدوا الكوارث، يصف مشاعرهم المضطربة وأحزانهم الثقيلة، هذا ما فعله آدم دنون عند كتابته لقصته، فهو ابن الغيتو الأول والشاهد على تاريخ مضى دون أن يتخذ موضعه الملائم في كتب التاريخ الكثيرة.
يروي آدم تاريخ نشأته وهو الصبي الناجي على صدر أمه المتوفاة نتيجة العطش والحر خلال مسيرة الموت التي أجبرهم عليها الاحتلال الصهيوني بعد تدمير مدينة اللد. ينجو آدم على يد أعمى وتتبناه سيدة شابة فيُشكِّلا عائلته الأولي.
الذاكرة كجرح في الروح
خلال مسيرة حياته يروي آدم بعذوبة مؤلمة ما حدث له رغم رغبته في التزام الصمت وطمس هويته وصنع أخرى، فيظهر بمظهر بائع الفلفل اليهودي اللبق متحدثًا العبرية والعربية بطلاقة ويبتعد كل البعد عن ذاته العربية لعله ينسى الألم، ولكن نحن من نحمل الذكريات، فأين نذهب من أرواحنا القلقة؟
مهما ارتحلنا ستبقى الحكاية لتروى مهما تلحفت بالصمت، هذا ما فعله آدم دنون قبل انتحاره كتب حكايته في سرد سريالي غير مستقيم، كأنه فتى يبكي من طول الطريق فيرمي كل ما يثقل كاهله على الورق، فيمدنا نحن بجرعة إضافية من كآبة لا نرجو من ورائها سوى الحقيقة.
الأدب كتجربة فردية
يفضح آدم دنون في كتاباته البديعة، سادية الاحتلال، وقبح الإنسان وتلذذه بالقتل والتخريب، يروي عن الروح الإنسانية الصلابة، وابتلاعها للمصائب وكأنها لا تنتهي. في حادثة واضحة للجميع ولكن تظللها العتمة والصمت من كل جانب، وكأنه إشارة علي العجز، يروي دنون ولادته ومماته المبكر على أرض فلسطين، فهو ابن شجرة الزيتون المباركة، ولكن اللعنة تلزمه أينما حل.
يتحدث دنون عن الخوف لا كتجربة فردية فقط ولكن كخوف أكبر يضرب أرواح الناس ويقتلها، ويحكي عن شعب سيق إلى الذبح وابتلعه التيه، بلُغة خاصة وبليغة، فيصف دنون حكايات الرعب الذي شاهدها وسمع بها، ولا يروي الحكاية بعينه فقط وإنما بعيون جميع الشخصيات ويتفرد كل شخص بتجربته الخاصة، يمنح التجربة الجماعية خصوصيتها وفرديتها فينقلها من تعاطف عابر على شعب مذبوح إلى ألم حقيقي، وكأنك تبكي عائلتك وأصدقاءك.
تلك مهمة الأدب، فهو يخرج الأشياء من سطحيتها المفرغة ليعطيها بُعدها الحقيقي والفعلي، وهذا ما نحتاجه عند قراءتنا للقضية الفلسطينية، ليست إحصاءات صلبة خالية من الحياة، فمن المفترض أن نعرف حكايات من مرّوا خلال تلك الأزمات ومشاعرهم وحيواتهم الممزقة وأن نتعلم منهم ونقدم لهم يد المساعدة.
الأدب يجعلنا نمشي إلى نهاية العالم، وفي الطريق لا نكتشف طرقًا وأماكن جديدة فقط وإنما أرواحًا وحكايات لم نختبرها، ويمنح الأدب أصواتًا لمَن لا صوت له وللمجهول والمهمش. وهنا تكمن روعته كما تكمن روعة الرواية، فهي تحكي عن الكارثة الفلسطينية ليس من عيون الاحتلال ولا الأحزاب السياسية ولا التاريخ، ولكن من عيون من عاصروا وعرفوا المذابح وشمّوا رائحة الدم، مَن عانوا و نجوا.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 11,914
قراءة في أولاد الغيتو، رائعة إلياس خوري المقنعة
link https://ziid.net/?p=67061