ثمرة من قصة “آلام ڤرتر”
قصة عمرها أكثر من مائتي عام عن محام تألم مرارًا لفقده هو وتألم لغيره. طبعت القصة مرارًا وترجمت للغات وللعربية أول القرن العشرين.
add تابِعني remove_red_eye 1,263
أول مؤلفات الشاعر الألماني “يوهان جوت” (أو جوته) عام (1774م) أعيد طبعها وترجمت للغات عدة. ترجمها الأديب المتمكن الراحل أحمد حسن الزيات، ولخصت هنا من طبعتها الرابعة الصادرة عام “1929م”. فصولها ذكريات يومية لفترة في حياة المؤلف حكاها بلسان رجل اسمه “فرتر” يصور فيها عصف عواطفه به وتهافت خواطره وهمومه وحيرته.
مقدمة
مقدمة الترجمة للأديب الراحل “طه حسين” أطرى فيها اختيار “الزيات” وحسن ترجمته للقصة، مبينا أن الناقل ملزم أن يقوم مقام المؤلف الأول فيشعر بقلبه ويحس بحسه، فالألفاظ وحدها قاصرة عن وصف الشعور في اللغة الطبيعية فكيف بها في لغة أخرى. ويرد على من أخذوا على القصة أنها ألهبت وجدان الناس وحملت بعضهم على الشروع في الانتحار، بأنها بالغة الجمال وفيها تصوير للنفسِ دقيقةِ الحس والعاطفة ما يجعلها عملا فنيًّا، بل إنها كانت تقرأ وتدرس. وكتب المترجم إهداء إلى صديق حميم مدح فيه سرعة بكائه رفقًا بالمستضعفين وسرعة سخطه على المتكبرين، ثم ختم إهداءه بخطر المشاعر ووجوب التعبير الصادق عنها مؤمنًا بأن النهضات الاجتماعية لا تبعثها سوى العواطف المتّقدة والخواطر الملتهبة، لا الأذهان الساكنة ولا القلوب الخامدة.
البداية
تبدأ القصة بموقف بين “فرتر” وبين خالته فقد وجدها مع قلة حلمها وحدة طبعها حسنة الإصغاء ميالة إلى الطيبة والكرم حين فاتحها في إرث تعسر بحثه بينها وبين أمه فاذا بخالته تعطيها ما تريد والذي بينهما ينجلي دونما تطويل بعد حديث رقيق، فعبّر عما حصل في جملة حكيمة وهي: “إن سوء التفاهم والإهمال في التعبير وجمود المعاملة ربما أحدثوا من الشقاق والخلاف بين الأفراد أكثر مما يحدثه الخبث والخداع”. ونحن نجد بيوتًا لا ينقصها من رخاء العيش وسلامة الأفراد شيء وفيها بؤس ونكد وقلق وخصومات ولا تجد سببًا غير غياب التعامل الحسن والتصارح الهادئ والإصغاء والتفاهم. ثم يضيف المؤلف وصفًا لا يخلو من حكمة أخرى إن “أسعد الناس الذين هم كالأطفال لا يعرفون الماضي ويغفلون عن المستقبل فلا يفكرون إلا في الحاضر”.
وفي موضع آخر يلفتنا إلى وصفه للأطفال وأن أمثالهم سعداء حين يتأمل المؤلف المفارقات في أساليب الأسر مع أطفالها فيبين على لسان بطل قصته إيمانه بخطأ عظيم في التربية حين “نعامل أطفالنا وهم أمثالنا في الخلقة وقدوتنا في الخُلُق معاملة الأتباع والخدم”. ويضيف بأننا “حين نحرمهم من الإرادة كأننا نفعل لأننا نحن خالون من الإرادة” يشبه عبثنا بكرامة الأطفال حين نعتاد إهمالهم وتعنيفهم ونترك حسن تفهيمهم والترفق بهم، يشبّه ذلك بمعاملة الخدم، وحتى هؤلاء لا يسيء ذو المروءة إليهم. ويبين أن فاقد الشيء لا يعطيه بل لا يحس به ولذلك نحرمهم من الإرادة لأننا لا نعرفها. كل تلك الأمور نجدها توجب تفكير كل من يربي ويعلم.
الألم
وسكب “فرتر” صنوف ألمه الأول من حبه لفتاة وحزنه إذ وجد عاطفتها مع غيره حتى ماتت. وظن أنه فرح ببعده عن بلدته وانتقاله إلى قرية يشتغل فيها بالمحاماة عن فقده ذاك. ولعله نسي حزنه على الفتاة لكنه ما لبث أن أظهر ضعفه في نسيان درس ميله إلى من أحبت غيره، فبقيت كآبته أمدًا، حتى سمع كلمة تصف حاله وأمثاله في كثرة الغمّ، سمعها من قسيس القرية مقارنًا من فيها بأهل المدن قائلًا عن القرويين إنهم “لا يعلمون عن انقباض النفس شيئا”. ونجد هذا يتجلى لنا في شتى بقاع الأرض. تميل عقولنا إلى الارتياح وصدورنا الى الانشراح ونفوسنا إلى التجاوز والنسيان كلما ابتعدنا عن المدن إلى القرى والشطآن وحتى إلى الأودية والجبال.
في القرية وجد “فرتر” أسباب السرور ووسائل الأنس وفتنة الطبيعة إلا أنه لم يجد السعادة. ومن حيرته وكثرة تفكره وتأمله وصل إلى قرار عبر عنه بكلمات من أسس الحياة السليمة، وهي أن السعادة ليست من خارج المرء وإنما هي متعلقة بقلبه هو لا تُطلب إلا منه ولا توجد إلا فيه. كلمات إن اعتقدناها سعدنا أينما كنا.
ثم عرف فتاة في القرية وأعجب بعلمها وأدبها فراقب الأوقات والأماكن ليحادثها، حتى مال إليها وهام بها. ثم صادق شابًّا حسن الخلق والحديث وصار يجالسه ويسامره. ثم تبين له بعد أمد أن التي أحبها مخطوبة إلى هذا الشاب ما لبثت أن تزوجت منه وهما مغرمان ببعضهما. لُدغ “فرتر” من جحر مرتين. وها هو يفصل خواطره بأمانة ويروي معاناته بصراحة، كأنما يتأسف على تردده في طرح نواياه وتخوفه في إظهار مشاعره وتأخره في إعلان تعلقه بخطبة من أراد، حصل ذلك منه في حاضره بالقرية مثلما كان في أمسه في مدينته، وفقد مرتين. سرد كلمات ملفتة تشمل كل أمر وحركة في الحياة: “إن أولى الناس بالخجل أولئك الذين صاموا عن العمل ولم يفطروا، وسمّوا العجز عقلًا حين همّوا ولم يقدروا”. ولعله بعد ذلك أسرف في ندمه والحيرة، حتى اشتد به الحزن والقلق إلى الانصراف بفكره إلى الموت والحياة الأخرى.
ونجده تارات يجتهد في لمّ شتات عواطفه مُلحًّا على نفسه بأن المرء بقلة اهتمامه يستطيع تحمل كل شيء. ويعاتب ضميره لأنه قارن نفسه بزوج فتاته، منكرا المقارنة فهي أمر سيء ينبغي تفاديه، فيقول بلسان خواطره: “ما دمنا نقارن كل شيء بأنفسنا، ونقارن أنفسنا بكل شيء، فسعادتنا أو شقوتنا تتعلق بتلك الأشياء التي نرتبط بها ونقارنها” كلام صائب عن السعادة كسابقه، ويؤكد السعادة الذاتية في موضع آخر بسؤال استنكاري “هل في قدرة إنسان أن يهبني الحب والمسرة واللذة إذا ما عدمت ذلك في نفسي؟”
الحب والتضحية
ومن طيب نفس “فرتر” وربما مما سما إليه بتأملاته واعتقاده، بقي قريبًا من زوج محبوبته، يخالطه ويجالسه ويتحادثان كثيرًا بكلام فلسفي جميل، ولم تنقطع محادثاته مع محبوبته. وصف حاله تلك بكلماته جميلة: “لا تجد في العالم لذة أصدق ولا مسرة أقوى من أن ترى قلبًا خالصًا ينفتح أمامك، ونفسًا كبيرة تنكشف لك”. ويعود ليبين اجتهاده في كبح وجدانه حيال محبوبته وزوجها معاتبًا نفسه بسخرية بقوله “تزيدني الأيام علمًا أن من الحمق أن يقيس الإنسان غيره على نفسه”.
وكان في القرية شاب قوي طموح من أسرة ضعيفة يهوى فتاة ويتبع أثرها يريد خطبتها، ومن شغفه بها مع امتناعها عنه خوفًا من أبيها الذي رفض الشاب، أخذ يهذي أيامًا حتى أودع مصحة عقلية. وبعدما خرج منها عرفه “فرتر” وأعجب بأحاديثه ورقّ لأحواله وظل يجالسه. ثم أقض العشق حياة الشاب دون أن ينال مراده، فحقد على من منعه عنها، حتى أمسكه الناس يومًا وقد قتل أبا حبيبته مستسلمًا لهم فاقدًا أمله في كل شيء. اغتم “فرتر” لنهاية صديقه ودافع عنه عند الحاكم ليتركه ولكن دون جدوى. فعبر في يومياته تلك قائلًا “إنّ آلَم الأشياء لنفسي وأشدها إثارة لحنقي التمايز القبيح بين طبقات المجتمع إذ يكون عقبة كأداء في سبيل القليل من السعادة”.
وعرف “فرتر” في حياة المترفين بعض المدلسين والمتملقين والساعين بما يفسد بين الناس ليكسبوا هم، فوصفهم وصفًا بليغًا قائلًا: إن أقدر الناس على الكذب من لا يجيد المدح إلا به. لعله يدل على قبح المنافقين فهم يظهرون خلاف ما في قلوبهم ليحققوا أهواءهم، ساعين ليسُقطوا غيرهم، ويكذبون في مدح نفوسهم الخبيثة. وفي موضع آخر يذم الذين يؤذون ويتسلطون من أجل أهوائهم حتى وإن حرموا غيرهم حريتهم وحقوقهم وسعادتهم، فقال: “بؤسا لأولئك الذين يتخذون من سلطانهم على بعض القلوب ذريعة لحرمانها تلك المسرات البسيطة التي تنبعث فيها من تلقاء نفسها”.
ومع يقينه بسعادة التي أحبها مع زوجها وسعادته معها، إلا أنه كتب مرة إليها قائلًا بأنه يعظم الدّين ويجلّه ويعتقد أنه السند الأقوى للنفوس الوانية، والمورد العذب للقلوب الصادية. ثم نجده مع إيمانه ومراجعاته المتوالية لنفسه، يختم حياته بما خالف واقع المؤلف الذي كتب القصة عن نفسه. ظل “فرتر” يضعف ويتنقل وحده في الطبيعة يسترجع عواطفه التي عذبت قلبه وأطارت لبه حتى ما عاد يطيق الحياة.
وسمع الناس يومًا طلقة مدوية من كوخه ليجدوه طريحًا منتحرًا، وبجانب البندقية رواية مأساوية كان يقرؤها. ظل محتضرًا بعض يوم حتى مات بعدما خسر صراعاته مع نفسه. تعجبت ممن كان ذا عقل راجح وكلام فيه حكمة أن ينهي حياته. وتعجبت مما حصل بعد موته حين أمضى كل من حبيبته وزوجها مدة في حزن عليه شديد، أيمكن حصول مثل هذا إلا قليلًا؟ أم يكون شعورًا عابرًا ضئيلًا هو أقرب للشفقة منه إلى الحزن؟ أم لعلها كانت صداقة عميقة وإلفًا قويًّا؟ وأجيب على عجبي من الحالين أن سببه مقارنتي بين ثقافتين مختلفتين.
أفلح مترجم الكتاب أيما فلاح في رسم صوره الفنية الملفتة والمسلية للقارئ والتي لا تخلو من شجون عارمة.
إليك أيضًا:
add تابِعني remove_red_eye 1,263
قرأة في رواية آلام ڤرتر
link https://ziid.net/?p=74880