كيف يقتل الحاكم القاتل نفسه؟

يستيقظ حِندس الفُتوّة ذات يوم من نومه على حُلم، حلم يرى فيه أنه جالس مع الفتوة الذي قتله منذ زمان، يقول له إنه عفا عن قتله له وأنه قال لولده انسَ الانتقام. فيجعله هذا الحلم يتذكر أن زوجة الفتوة هذا قد نذرت على قبره أن يقتله ابنُهما. فيفسّر حندس الحلم على أن الابن سيأتي قريبًا لينتقم لأبيه. فيقوده هذا التفسير للحلم أو كما يسميه عمنا نجيب محفوظ  *كلمة غير مفهومة” إلى قتل نفسه.

“كلمة غير مفهومة” هي القصة القصيرة الأولى من مجموعة نجيب محفوظ القصصية: خمّارة القط الأسود. سنحاول هنا فهم كيف جعل عمنا نجيب القاتلَ يقتل نفسه.

الشخصية

حندس هو فتوة. والفتوة قديمًا هو شخص ضخم يفرض نفسه على حارة أو مكان ما ويكون مسؤولا عن حمايته. المسؤولية هذه هي نقطة تنافس وتناحر بين الفتوات دائمًا لأنها ستجعله الأقوى ويكون له أتباع ويأخذ أتاوة على الناس مقابل هذه المسؤولية. والذي يفوز بها هو من يقتل الفتوات الآخرين المنافسين. هذه المنافسة الدائمة والقتل المستمر تجعل الفتوة الموجود على أعلى الحكم في حالة استعداد لأي انقضاض أو غدر.

لكن الذي حصل هنا أن عمنا نجيب جعل ابن الفتوة المقتول يغيب ولا يظهر أبدًا. فحين رأى حندس الحلم، بدأ يستعيد الذكريات فتذكر أن أمه نذرت أن تجعله يقتله. فهنا حصل له ربط بين الحلم ونذر الأم كأن الفتوة المقتول يبعث له برسالة خفية. وهذا الربط حصل كما قلنا بسبب الاستعداد الدائم للانقضاض. والخوف من الغدر. وهذا ما قاله في بداية القصة لزوجته: أنا لا أبالي بعد ما دمت أعرفه، أما الذي لم أعرفه ولم أره!

الأتباع والأعوان

جعل عمنا نجيب ثلاث شخصيات لحندس من أتباعه. طمبورة وسمكة وعنارة. طمبورة المطبّل. وسمكة الخائف. وعنارة الخوّاف لأنه بمنزلة الأب لحندس. لو حللنا هذه الشخصيات لوجدنا أنها تمس شيئا من شخصية حندس. هي تحقق تفسيره للحلم بكل قوة. فطمبورة المطبل بتطبيله له يرفع من ذاته المتضخمة أصلا. هو قال له: أي أم تحرض ابنها عليك يا معلم؟ ونحن حولك كالجدار. والخائف والخوّاف يؤكدان الحلم ويزيدان في خوفه بقولهما: حارتنا يقتل بعضها بعضا مذ خلق الله الأرض. والحلم له معنى، إنه يذكرك بما نسيت. فهم هنا كأنهم يقولون له خذ حذرك ولكن لا تخف نحن جانبك.

انتشار الخبر

مؤكد حكايته لأعوانه الخبر، ستجعل هذا يحكي لهذا وهذا يحكي لهذا حتى يعلم الجميع. وهذا يعقّد الأمر أكثر. فهو من جهة يؤكد الحلم، لأن ردود أفعال الناس محددة بما يعرفونه عن الفتوات بأن الفتوة يقتل ويُقتل فهذا الابن فمؤكد يومًا ما سيأتي الابن لينتقم لأبيه فالحلم إشارة. وأيضًا لو كان الابن بينهم متخفيا أو قريبًا – وهذا ما لا يعرفه حندس وأعوانه – فمع انتشار الخبر هذا سيجعل حندس يستعد ويأخذ حذره ويعد خطته. وهو ما حصل فعمنا نجيب يقول: واستعد أتباعه للبطش. وهكذا أصبحوا جميعًا على خوف. خوف من شيء غامض.

حلّال الغموض

دائمًا عندما يبحث الناس عن شيء غامض أو يغمض عليهم أمر ولم يستطيعوا تبيّنه بشتى الطرق. يظهر مثلًا ساحر ليقول لهم أنه يستطيع فك الأمر أو هم يذهبون إلى ساحر. وهذا ما حصل هنا. فالعجز الذي هم فيه، دفع الشيخ الدرديري المقرئ الضرير أن يدخل عليهم ليقول لهم أنه يعرف مكانه. مؤكدًا أنه رأى أنه مثلًا سيحوز منزلة عالية عند الفتوة. سيظهر للناس أنه ساعد الفتوة وحقق ما عجزوا عنه. كل هذا وهو ضرير. مثلًا. فقال لهم أنه دعُي للقراءة في مدفن وكان هناك وهو أمه على قبر أبيهم. هنا يدخل دور الأتباع. فطمبورة المطبّلاتي قال سنذهب في العيد الكبير هناك. والخوّافَين أكدا.

وحين ذهبوا لم يجدوه. فأرسلوا الشيخ يسأل عن مكان مسكنه عند حارس القبر ولكن حارس القبر اشمئز من الحديث عنه. فهذا الغموض ما زادهم إلا خوفًا منه. فعمنا نجيب يقول بلسانهم: وضح لهم أن الشاب غامض حقًّا وأنه يحيط نفسه بالأسرار، وأنه خطير يجب أن يحسب له حساب. وحين دلهم الشيخ على مسكنه وذهبوا قُتل حندس هناك بين أعوانه دون أن يروا شيئًا أو يفهموا شيئًا.

أي أن الحلم تم تفسيره بسبب بُعد الشخصية النفسي وتأثير الظروف عليه دون أن يضع اعتبارًا أن هذا قد يثير الابن للانتقام حتى لو لم يرد أن ينتقم. وأن هذا سيتم بسهولة لأنه لا يعرف حتى شكل الابن.

إليك أيضًا

• من هو نجيب محفوظ: هرم الأدب وقلم البسطاء؟
• في ذكرى نجيب محفوظ (أديب حثّني على الكتابة)
• التأطير الاجتماعي للأدب