بانكسي ثائِر الفن .. الفنان الذي فضل أن يتوارى عن الناس
بناكسي هذا الفنان المتمرد ضد أبجديات الفن التجريدي، والثائر على استبداد التقاليد والعادات وعلى الشهرة
add تابِعني remove_red_eye 176
لطالما كان فنُ الرسم فنًا جذابًا مُمتعًا، تُدهش العين لروعته وتستمتعُ النفس بجماله، وربما تُعلّق على الجدار بعضُ لوحاته، فيراها الغادي والرايح، فتبتهجُ روحه، وتُشرق قسمات وجهه.
لكنّ الزمن سيمتُه التطور، ومنهجه التجدّد، فلا غرابةَ أن هذا التطور والتجدد أصاب فن الرسم، فتغيّر تغيّرًا جليًّا، وأصبحت بعض اللوحات الآن تحمل جانبًا فلسفيًّا ومعنًى بعيدًا ولم تعد مجرد منظر جمالي، ومتعةٍ بصرية؛ بل صار فكرةً جريئةً، ورؤيةً عميقةً وهدفًا مختلفًا عما تراه العين ويتبادر إلى الذهن، لقد أصبح فنًّا ثائرًا فلسفيًّا، ثائرًا؛ لأنه أحدث ثورةً على فن الرسم التقليديّ، وفلسفيًّا؛ لأنه يقدم من خلال الألوان والرسوم والأشكال فكرةً مواربة مخفيّة لا تُفهم من أول نظرة.
وليس أدل على ظهور الفن الفلسفي إلا الفنان الإنجليزي الغامض المشهور والمجهول في ذات الوقت، الفنان الذي يميّز لوحاته الجميع ولا يعرفه أحد؛ إنه بانكسي، بانكسي الذي لم تخلُ مواقع الأخبار وصفحات التّراجم من تخمين اسمه الحقيقي أو تاريخ مولده أو مسقط رأسه، فمن ذلك؛ أن مجموعةً من الباحثين شرعوا ببحثٍ يتضمن تحليلًا إحصائيًّا في سبيل أن يتعرفوا على هويّة فنّاننا الغامض من خلال حصر الأماكن التي طبعت على جدرانها بعض رسوماته، وكانت النتيجةُ في نهايةِ البحث عبارة عن قائمة تضمّ عشرةَ أسماء يُتوقع أن يكون أحد أصحابها الرسّام الخفيّ، غير أن البحث توقفت عجلته عند منحدرٍ ما؛ فلم يُعرف أيّ الأسماء هو صاحبنا، وظل بانكسي -إلى يومنا هذا- لغزًا بلا حل.
وقد يدور في البالِ سؤال: ما هدفُ بانكسي من التواري عن الناس؟ ثمة أسباب جمّة قد تدفع بهذا الفنان إلى البقاء مُختبئًا خلف الستار؛ ربّما خوفًا، أو رغبةً في يكتنف شخصيته جو من غموض مثير يكون سببًا في شهرته، أو طلبًا للانزواء عن الأضواء والجماهير، أو غير ذلك كله، لا أحد يعلم، لكنه -بلا شك- ما زال مصرًا على ارتداءِ عباءة التخفي؛ وآخر ذلك أنه دُعي لاستلام جائزةٍ ممنوحةٍ له من قناة بريطانية، فلم يأتِ.
هذا الفنان متمردٌ ضد أبجديات الفن التجريدي، ثائرٌ على استبداد التقاليد والعادات، فتراه يخوضُ من خلال لوحاته التي يرسمها في جنح الظلام غمار البحار وفيافي الصحاري، فيُزيّن جدران الشوارع وأعمدتها بلوحاتٍ يدور رحاها حول قضايا بعيدةٍ كل البُعد عن جمالية الرسم المعهودة، فلا شجرًا ترى ولا ربيعًا ولا وجهًا صبوحًا؛ بل قضايا سياسة وثقافية وأخلاقية، وحكايا الحرب والرأسمالية والعنف والاحتلال، وغيرها الكثير المُثير. كما أن بانكسي ألهمَ غيره من فناني الشوارع، فلم يعد الرسم على جدرانِ الشوارع عملًا صبيانيًا عبثيًّا؛ بل فنًّا مُهمًا له كلمته المَسموعة في عالم الفنون.
ولعلّ أبرز ما قدمه بانكسي لِفن الشوارع، هو النزعة الإنسانية التي تتجلّى في أغلب لوحاته؛ فوقف مع المهاجِرين، وتضامن مع أهالي غزة، وسلط الضوء على أزمةِ اللاجئين، وأثر هذا الرسام يُرى في أماكن شتّى، إذ لم يقتصر تواجده على بريطانيا أو حتى أوروبّا، بل يحضر فنّه حيث تحضر الأزمات والكوارث؛ فمثلًا زار فلسطين مرةً حينما وقعت في غزة معركة العصف المأكول التي حدثت بعد خطف وتعذيب وحرق الطفل محمد أبو خضير على أيدي الصهاينة، خلد بانكسي هذه الحادثة -وحوادث غيرها- بعدة رسومات؛ منها قطّة تلهو بقطعة معدنية من بقايا القصف:
وأخرى لفتاة صغيرة تفتش جنديًّا صهيونيًّا مدججًا بالسلاح:
ولا تقفُ لوحاته عند هذا الحد، فما أكثر ما تلوّن جدار الفصل العنصري بألوانه واصطبغ برسوماته، منها طفلةٌ تُمسك بالونات، مما يرمز إلى الحريّة والانعتاق:
وطفلان يقفان تحت فرجةٌ في الجدار تطل منها السماء الزرقاء والأشجار الخضراء:
وطفل يُدخل وردةً في فمِ بندقية:
وغير ذلك كثير.
كما قدِم إلى أحد المخيمات السوريّة وترك لوحةً تُظهر ستيف جوبز بصورةِ مهاجر إشارةً إلى نسبه الذي يعود إلى أحد المُهاجرين السوريين:
وأمّا لوحته طفلةُ البالون فهي حكاية الحكايا وقضيّة القضايا، حيث تصور اللوحة طفلةً تحاول أن تفلت بالونًا أحمر من يدها، وكانت اللوحة تُعرض في مزادٍ علني، وعندما أُعلن أنها ستُباع بحوالي مليون دولار أمريكيّ أخذت اللوحة تُمزق نفسها، ويُعتقد أن هذه اللوحة هدفها التضامن مع ضحايا حرب الأسد على سوريا:
لقد أصبح بانكسي ريشة الإنسانية وقلمها الذي تُعبر به، في محاولةً مُستميتة بديعة لإيقاظ الشعوب من غفلتها، تلك الشعوب التي تراقب -بصمتٍ قاتل- مشاهد من الظلم والقتل والاستبداد والعنف.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 176
مقال مثير حول الفنان الثائر بانكسي
link https://ziid.net/?p=83187