منذ أن فتحت عيناي على هذه الدنيا وأنا أنتقل من بلد لآخر، مرحلة الطفولة في بلد والشباب في آخر وبعد الزواج في بلد ثالث، لقد تنقلت بين ستة بلدان. قالوا “الغربة كربة” وانا أقول أنها ليست كربة إلا لمن أرادها كربة بل هي مدرسة متكاملة كفيلة بصقل شخصية الإنسان وتعليمه وتثقيفه، إنها العدسة التي ننظر بها إلى العوالم الأخرى. العوالم التي لا نعلم عنها شيئاً ولم تحدثنا عنها المناهج الدراسية، إنها العالم المخفي الذي لا نعرفه الا بالسفر ومهما وُصِفَ لنا لن ندرك أسراره إلا إذا عشناه.
الغربة بئر الثقافة
لماذا بئر وليس شيئاً آخر؟ لأننا ندلي دلونا في البئر لنخرج الماء وكذلك الغربة لابد أن نعطيها فتعطينا، نتعايش معها ونقبلها وننتمي إليها، المتفائل ينظر في الغربة إلى الأزهار على الأشجار تفاؤلاً ويترك الأشواك للمتشائمين. كم مرة سمعت في الغربة من بعض المحرومات عبارات التذمر وانعدام الصبر، كانت تنفث طاقتها السلبية على كل من حولها وتبث الحزن والبؤس في أي مجتمع تجلس فيه، إنها محرومة لانها لم تحاول أن تستفيد من الغربة وتأخذ منها ما ينفعها.
في أي بلد فتحت أبوابها للمغتربين وسهلت لهم سبل العيش لابد أن تجتمع عدة ثقافات في مكان واحد، هذا الاجتماع هو بحد ذاته كتاب مفتوح طيلة الوقت. نتعرف فيه على المجتمعات الأخرى وعاداتهم ونكتسب منهم ما فقدنا لنكمل به النقص. وهذا النقص ليس نقصاً لعيب إنما نقص لقلة الاحتكاك بالآخرين المختلفين عنا، ففي بلادنا لا نرى سوى من يشبهنا في العادات والتقاليد فنتطبع بطباع بعضنا البعض. بينما في الغربة يتوفر لنا الاحتكاك الاجتماعي مع الثقافات الأخرى.
علمتنا الغربة احترام الثقافات الأخرى
كنا نتعجب كثيراً من بعض العادات والتقاليد المختلفة للشعوب الأخرى بل كنا نستنكر مالم يتوافق مع أمزجتنا وعاداتنا، ومع الوقت أضحى احترام الثقافات الأخرى واجباً. فالشعوب التي اعتادت أن تستقبل الآخرين في بلادها مثل الشعب الماليزي والصيني والتايلندي والأندونيسي والتركي تنظر لعاداتنا نظرة تساؤل وزيادة معرفة، تتعرف على ثقافتنا كعلم جديد يضاف إلى رصيدها، معرفة خالية من الازدراء والتعجب. لقد تعلمنا منهم أن نبادلهم الاحترام، ونسكت عما لا يتوافق مع مبادئنا ومجتمعاتنا.
من ذلك عادات الأكل فالأرز يعتبر من الوجبات الأساسية في ماليزيا، يعتمد عليه الشعب الماليزي حتى في الإفطار، ولكن في بلادنا يستحيل أن نطهو أرزاً في الصباح لوجبة الإفطار فاعتمادنا على الخبز هو الأغلب، ولكن مع الوقت بدأنا نجرب طعامهم حتى استسغناه بل وأصبحت وجبة الإفطار أرزاً مع السمك تارة ومع الدجاج تارة أخرى!. انخرطنا في المجتمعات الأخرى بشكل كبير واحترمنا عاداتهم بل وتقبلناها.
ومن ذلك عبادات الصينيين والهندوس الغريبة العجيبة، كانوا يوجهون البخور نحو الشمس ويضعون آلهتهم الحجرية في بيوت صغيرة في الشوارع ويوفرون لها الطعام، علَّها تأكل!، إجازاتهم وأعيادهم ومناسباتهم التي لا تنتهي، يتشاءمون من الرقم أربعة فيتجنبون كتابته حتى أثناء ترقيم المنازل ويكتبون 3A بدلاً منه وغيرها الكثير.
اللغة
هناك اختلافات في اللغة أيضاً، يضطر المغترب تعلم لغة أهل البلد حتى يستطيع التفاهم مع الآخرين، أو تعلم لغة مشتركة كالإنجليزية مثلاً. اللغة علم وإتقانها تطوير لمهارة الشخص اللغوية، لذلك تعتبر مكسباً من مكاسب الغربة التي لابد أن نضعها بعين الاعتبار. في ماليزيا تعلم اللغة الإنجليزية يكفي للتفاهم أما في تركيا فلابد من تعلم اللغة التركية وهي اللغة المعتمدة في كل مكان.
حتى في الجامعات لابد من دراسة اللغة قبل الشروع في دراسة التخصص، بعض الآباء والطلاب يعتبر سنة اللغة مضيعة للوقت وهذا خطأ بل هي قوة وزيادة معرفة ونهل من معين العلم، كم من السنوات تضيع بلا فائدة دون أن نشعر ماذا لو اكتسبنا لغة جديدة، كل ذلك يصب في رصيدنا المعرفي.
السياحة في الغربة
في كل بلد هناك أماكن سياحية لابد من رؤيتها والتعرف عليها ومعرفة تاريخها كجزء ثقافي هام. السياحة في البلاد تخفف عن المرء هم الاغتراب وتجعله بندمج في المجتمع الجديد. معرفة تاريخ البلاد وكيف عاش أهلها امر ممتع ينقلك عبر الزمن الى أماكن لاتعرفها، فتنخيل كيف كان أولئك الناس يعيشون وتقارن بين الماضي والحاضر وما وصلنا إليه.
تأمل في الأرض وانظر كيف خلق الله الثقافات الأخرى والبلاد وكيف جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف كما قال الله تعالى: “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” شخصياً أعتبر اختلاف الثقافات كنز من الكنوز المكنونة التي لابد من اكتشافها، فإن تيسرت الغربة فمن الخطأ رفضها لمجرد البعد عن الأهل والوطن، لابد من خوض المغامرة فالحياة كلها مغامرات.
الغربة مشروع بناء للشخصيات
هي فرصة عظيمة لبناء شخصيات أطفالنا وإكسابهم قوة واستقلالية واعتماد على النفس، ولا يتأتى ذلك إلا بوالدين متحررَين من الأفكار المعتمة والضيقة ومنفتحَين على الثقافات الأخرى. فكل ما يؤمن به الوالدين ينتقل لأطفالهم بشكل أو بآخر. قد يكون
هذا المقال مفيداً في هذا المقام.
الغربة مشروع بناء لشخصية الأم والأب والأطفال. في بلادنا يحيطنا أفراد الأسرة من كل جانب يعينوننا ويساعدوننا في الأمور كلها في حين أن الأمر مختلف في الغربة، فنضطر أن نعتمد على أنفسنا فلا مساعد ولا معين سوى الله سبحانه وتعالى، فتنشأ الشخصيات القوية وتتهيأ لمواجهة الحياة وتوفير ما يلزم.
لا شك أن فكرة الاغتراب بحد ذاتها فكرة مخيفة لمن عاش عمره في الوطن، لكنها فكرة تستحق التجربة لذلك لابد أن تتحرر نفوسنا من قيودها حتى نتقبل الفكرة قبل الاغتراب العملي فالتجديد مطلوب والسفر فسحة النفس.
لكل من قال أن الغربة كربة ولكل من لم يتقبل الغربة بعد، هناك أسرار كثيرة ستكتشفها في هذا المقال
link https://ziid.net/?p=41939