هل إرضاء الناس أصلًا غاية؟
كثيرًا ما يُكرّس الناس حيواتهم لإرضاء الآخرين، موهمين أنفسهم بأنهم منكرون للذات، فهل إرضاء الناس هو الخيار الأمثل على الدوام؟
add تابِعني remove_red_eye 576
إن أغلب المشاكل التي يعاني منها الناس في حياتهم اليومية تدور حول كلمة واحدة: الآخرون. فلا همّ ولا شُغل لهم إلا: هذا قال عني، وهذا ظلمني، وهذا أعجب بما قلته اليوم، وهذا غضب مني، فأصبحت حياتهم كلها تتمحور حول سعيهم الدائم والحثيث نحو نيل رضا الآخرين، حتى لو كان ذلك على حساب رضا الله عنهم، وهم لا يعلمون أنّ هذا لا يجلب عليهم إلا المزيد من السخط.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ الله عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عليه الناس) رواه ابن حبان
لسنا وليسوا ملائكة
يُخطئ مَن يظن أنه يستطيع نيل رضا الناس المطلق بشكلٍ عام، لأن البشر ذوو طبيعةٍ متقلبة، فاليوم هم سعداء، وغدًا غاضبون، وبعد قليلٍ مكتئبون -وذلك لكثرة المؤثرات التي يتعرضون لها يوميَّا- فلن يستقروا على حالة نفسية واحدة لأنهم بشر، وليسوا عبيدًا لرغباتنا وأهوائنا. يُخطئ أيضًا من يظن أن هناك نموذجًا مثاليًّا للصديق الأفضل أو الوالد المثالي، فلكل شخصٍ أخطاؤه التي تحتاج منا للتغافل والتجاهل إذا كنا نريد الإبقاء على الود.
حتى نحن يجب أن نرى عيوبنا أولًا، فلسنا ملائكةً ولا هم، وسعيُنا وراء عالم وهمي خياليّ ننحاز فيه إلى منشورات الفيس بوك الحالمة الواهمة، التي تداعب المشاعر عن الزوج الخارق أو الصديق الذي ليس له مثال أو الأب أو الأم الرائعين، سوف يجرنا إلى عدم الرضا بما رزقنا الله إياه، ويجب أن يعلم المرء بأن ما يُكتب على مواقع التواصل الاجتماعي لا يُمثل إلا الجانب الإيجابي من الأمر فقط، إذ لا يحب الناس أن يكتبوا عن مشاكلهم الحياتية على الإنترنت، وإبداء الجانب السيئ من أنفسهم.
كُن منصفًا
بعض الناس إذا خاصم فجر في الخصومة، ويترك لمشاعر الغضب الطغيان على كيانه والتحكم في نفسه، ناسيًا الضعف البشري الإنساني الذي يُوجد في كل إنسان، فهو لا بد مُخطئ، وغيره سيُخطئ مثله، فلا بد من الإنصاف في هذا الموقف وقول الحق، فلكُلٍ مميزاته وعيوبه، وقد قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ}.
وقال الشاعر بشار بن بُرد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أوْ صِلْ أخاك، فأنه مُقارِف ذنبٍ مَرّة ومُجانِبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئت، وأيّ الناس تصفو مشاربه
لذلك على الإنسان أن يقبل العفو من أخلاق الناس ويكون هيّنًا ليّنًا لا يقف على أخطاء الناس ويتذكر أنه يجب أن يغفر، لأنه مُذنبٌ هو الآخر، عسى الله أن يتجاوز عنه ويغفر له. ولكن للأسف يحاول البعض أن يغتّر بنفسه قائلًا: “أنا لم أفعل شيئًا خاطئًا، وهم فعلوا كل شيء” لكن الاعتراف بالحق فضيلة، والإنسان مهما فعل فلن يصل إلى الكمال، بل هو وهم نظن خاطئين أننا وصلنا إليه، تمامًا كالواحة في الصحراء وسط السراب، ولكننا نُفاجأ في النهاية أننا لا نجد أيّ واحة.
لكن إلام ترجع جذور الأمر؟
ترجع جذور الأمر إلى التربية منذ الصغر، فنحن تربينا على أوامر الأب والأم لنا بأن نرضي جميع الناس “ولا نغضب أحدًا”، وقد يتهيأ للبعض أن هذا أمر جيد، فما أجمل الطفل الهادئ المطيع الذي لا ينبس ببنت شفة، ولكنهم لا يعلمون الأثر الخطير لهذا الأمر على نفسية الطفل الذي سينشأ ضعيف الشخصية خائفًا على الدوام، يقلق أشد القلق عندما يغضب أيّ أحد -حتى ولو كان الطرف المقابل مخطئًا- بل وتجده أحيانًا يُصبح إنسانًا جبانًا يخاف كل شيء وكل أحد، ولا يجرؤ على قول رأيه بصراحة وقوة، ما دام الحق في صفه.
إذن فهل يجب أن نربي أطفالنا على أن يصبحوا صانعي مشاكل؟
ليس بالضرورة، بل يكفي أن نربيهم على مبادئ الحق والعدل بالهدوء والرويّة، فنعلمه كيف يعبر عن رأيه باحترام وهدوء وبلا تعصب، ونتقبل رغبتهم في إبداء آرائهم ونحترمها حتى يقدروا آراءنا فيما بعد، ونعلمه ألا يخاف في الله لومة لائم، ويعلم «أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» رواه الترمذيّ.
هذا يصنع منه إنسانًا قوي الشخصية يعرف كيف يعبر عن نفسه بلا خوف، فالأصل ليس إرضاء الناس من عدمه وإنما الأصل هو قول الحق أيًّا كان، حتى ولو لم يكن على هوى الشخص المقابل. وهذا ما يجب أن نتعلمه الآن بعد أن كبرنا وعانينا بما فيه الكفاية من المشاكل التي تنتج عن ضعف الشخصية والتقلب في الرأي وعدم الثبات على المواقف.
ماذا لو غضبوا؟
نحن لم نُخلق هنا لنُسعد الناس دائمًا، وحديث الرّضا والسخط الذي سبق ذكره أكبر دليل على ذلك، فعندما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلام يُعاكس معتقدات أهل مكة القديمة وخصوصًا أقرباءه، كان يعلم أنه لن يسعدهم، ولن يرضيهم، ولكنه كان يعلم أنه على الحق. “وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ”. ولكنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم كيف يواجه ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
اعرف قدر نفسك أولًا
تفضيل الآخرين على نفسك في كل شيء يجعل منك ظالمًا لهذه النفس ومهدرًا حقها عليك. [إن لنفسك عليك حقا].. أو [إن لبدنك عليك حقا]. هذا ما قاله سلمان الفارسي لأخيه أبي الدرداء عندما زاره فوجده قد انقطع للعبادة حتى أهمل حق زوجته وحق نفسه. فقال “إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”. وقد أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك بقوله: [صَدَق سلمان]. وفي رواية: [إن سلمان أفقه منك]، وفي رواية: [لقد أوتي سلمان عِلمًا]
يظن البعض أنه عندما يهب عمره وحياته للآخرين يحقق بذلك إنكار الذات، لكنه للأسف يصبح فيما بعد أنانيًّا أكثر، عندما يطالبه الآخرون بالمزيد والمزيد والمزيد حتى تنفد طاقاته، فيقرر أن ينقلب إلى النقيض ويمارس الأنانية السلبية. لكن التوازن ينقذنا من هذه النتيجة، فأعطِ لغيرك وقتًا بما لا يتعارض مع حق نفسك عليك، حتى تحقق التوازن في حياتك فتشعر بالهدوء النفسي، فالنفس لديها حاجات إذا لم تحققها جاعت هذه النفس وطلبت إشباع هذه الحاجات، ومن هنا يأتينا الألم النفسي الذي يشعر به أغلب أولئك الذين يهدرون حقوق أنفسهم لأجل غيرهم دون معرفة سبب هذا الألم.
في النهاية يجب أن نعلم أنّ رضا الناس ليس أولوية، وإنما رضا الله هو غايتنا الأولى والوحيدة، فاعرف في البداية ما هو سبب وجودك في هذه الحياة، وواجه نفسك بالحقائق الأولية للنفس البشرية، فأنت لم تُخلق لتكون عبدًا للناس، وإنما عبدٌ لله، وخدمة البشر تندرج تحت عبادة الله ولها محلها، فلا تجعل جانبًا واحدًا يطغى على الباقي، وتوازن حتى تصبح حياتك سعيدة عامرة برضا الله عنك ولطفه وكرمه عليك.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 576
مقال يساعدك على اتخاذ القرار الصعب.. إرضاء نفسك أم إرضاء نفسك؟
link https://ziid.net/?p=81434