جحيم العقل عند الشخصية الشكّاكة وزنزانة من الأفكار التي لا تهدأ
ما الذي يعرفه الآخرون عن جحيم الشك والارتياب، الظن أنك معرض للخيانة وعدم الولاء ممن حولك وأنك دائمًا حبيس لزنزانة أفكارك.
add تابِعني remove_red_eye 11,872
لا أحد يمكن أن يشعر بهذا الجحيم الذي تحيا فيه الشخصية الشكّاكة، أفكارها التي لا تهدأ أبدًا، خيالات يمكن أن تكون بعيدة تمامًا عن الواقع أو ربما أقرب ما يكون له، لن تعرف أبدًا الحقيقة حتى وإن قُدمت لك على صحن من ذهب، ستظل تشكك في كل كلمة وحرف، في كل نظرة وتصرف، لن يشعر أحد بالزنزانة التي حبست نفسك فيها وأصبحت أسيرًا لدوامات من الأفكار التي تدور في سقفها، لكني أشعر بكل هذا، لا لشيء إلا لأني مثلك.
جحيم العقل عند الشخصية الشكاكة وزنزانة من الأفكار التي لا تهدأ
أقرب وصف استطاع أن يطلقه علماء النفس على الشخصية الشكاكة هي أنها شخصية ارتيابية لها سمات غريبة الأطوار إلى حد ما، لكن ما مدى مقدار ما يعرفه علماء النفس عما يدور حقًّا داخل هذه الشخصية، لا شيء ثابت عند الشخصية الشكاكة، لا يوجد قاعدة معينة، ولا أرض صلبة، بل هو عالم أثيري تسبح فيه في اتجاهات عشوائية.
قوانين الفيزياء هنا معكوسة، فالضدان يتقابلان ويتتابعان بل ويتشابكان معًا، فالثقة موجودة ومتأصلة لكنها سرعان ما تختفي وتظهر في مواقف صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، ربما تظهر الثقة بكلمة، بوعد، بابتسامة ملؤها الحب، وفي المقابل تختفي بنظرة، بحركة ربما تكون مقصودة أو غير مقصودة، ارتياب في كل شيء، شك في كل النوايا، إحساس غير مبرر بأن أي شخص يمكن أن يفعل أي شيء.
سمات الشخصية الشكاكة
يصف علماء النفس الشخصية الشكاكة بأنها شخصية لا تثق في الآخرين وكثيرًا ما تشك فيهم بدون أسباب واضحة للشك، ماذا تعلمون أنتم عن الأسباب؟ يتحدثون دائمًا من وجهة نظر شاملة لا ترى التفاصيل الدقيقة، بالطبع هناك أسباب لكنها لا تُرى إلا من منظور قريب، اقترب أكثر وشاهد بعمق، فنحن ننتبه جيدًا للتفاصيل الدقيقة، نعرف طباع الأشخاص ونظراتهم وهمساتهم بل وطريقة أنفاسهم، عندما يحدث أي تغيير في أي مما تعودنا عليه يكون هذا سبب كافي بالنسبة لنا للشك والارتياب.
يعتقد علماء النفس أن هذا النوع من الشخصية ينتشر بين الرجال أكثر من النساء، وأن له جانب وراثي إلى حد ما، مع تأثير بعض أحداث الطفولة لاسيما التعرض لصدمات نفسية وعاطفية وجسدية، ربما يكون جزء كبير من كلامهم في هذه النقطة صحيحًا، ربما تعرضنا لصدمات نفسية لا نتذكرها، لا أستطيع الجزم متى بدأ الأمر تحديدًا، ولا أستطيع التأكيد إذا ما كان الأمر تطور والشك أصبح أكبر عما مضى أم لا.
دائمًا ما كنت أتساءل لماذا لا أستطيع الاحتفاظ بالآخرين، لماذا أبتعد وأنطوي على نفسي، ولماذا أفضل مكان لي هو المنزل، ربما كان هذا لأني دائمًا ما أشعر بالتهديد وكأن جميع الأشخاص من حولي يمكن أن يأذونني، ربما لأني دائمًا ما أشك في ولاء الآخرين وصدقهم، أبحث في عيونهم دائمًا عن الحقيقة ولا أجدها، أشعر دائمًا أنني معرضة للاستغلال والخداع من قبلهم، أكون حساسة تجاه كل كلمة وحرف ولا أتقبل النقد أبدًا، أغضب سريعًا وأفكر كثيرًا في الانتقام، هذه سمات الشخصية الشكاكة التي وضعها علماء النفس والتي ذهلت من مدى دقة وصدق كل حرف فيها حقًا.
يشعر الكثير من حولي بأني باردة في علاقاتي معهم، بعيدة عنهم، وهذا في علم النفس أسلوب دفاعي للشخصية الشكاكة، تحمي به نفسها من الآخرين، تسيطر كثيرًا وتغار أكثر لكي تتجنب الخيانة، ربما علماء النفس مُحقِّين فنحن غالبًا ما نرى أنفسنا على حق، نحن الجانب الأصح في المشاكل والنزاعات، نحن الجانب العنيد العدائي إلى حد ما في نظر الآخرين، ربما لأن هناك شعورًا لا يفارقنا بأن الآخرين يحاولون السيطرة علينا، فلا نسمح لهم بذلك، ونوقفهم دائمًا من التدخل في حياتنا ولو حبًّا.
الشخصية الشكاكة من منظور الشخصية الشكاكة
للمرة الأولى يتحدث فيها الشخص الارتيابي عن نفسه، دائمًا ما يتم تناوله ودراسته من قبل الآخرين، يكون في كل الأوقات مادة للدراسة من قبل الأطباء وعلماء النفس، يوصفه كلًا منهم من منظوره الخاص، لا أحد فكر من قبل أن يعطي مساحة للشخص الارتيابي لوصف نفسه، كيف يراها؟ ما مدى رؤيته للحقائق؟ هل يعرف أنه شخصية شكاكة؟ هل يتقبل ذلك؟ كلها أسئلة يعجز علم النفس عن إجابتها لأنه يتناول الموضوع دائمًا من وجهة نظر أحادية.
الشخصية الشكاكة تعلم حقيقتها وماهية أفكارها، إنها شخصية ذكية، سريعة البديهة ولمّاحة، وربما كان هذا السلاح الذي توجهه بيدها إلى صدرها، إنها تلمح كل شيء، التفاصيل التي لا ينتبه لها الآخرون، ملايين من النظرات التي تتزاحم في عقلها، كل هذا يجعلها تصل للاستنتاجات أسرع من الآخرين، أو ربما تصل لاستنتاجات لا يصل لها الآخرون أبدًا.
الجحيم الحقيقي عند الشخصية الشكاكة هو شكها وارتيابها ذاته، شكها الذي يعيقها عن الوصول إلى الحقيقة، إنها دائمًا في حالة من الظن، إنها تحب الآخرين لكنها في الوقت ذاته تكرههم في أوقات كثيرة، تعطيهم الثقة ولكنها تبحث دائمًا داخلهم عن حقيقة تؤكد لها عدم أحقيتهم بهذه الثقة.
نحن نعرف ماهيتنا ولكن هل نتقبلها حقًّا؟ لا أعتقد ذلك، وإلا ما كنا ألقينا كل هذا اللوم على أنفسنا، وما كنا رأينا حقيقة كوننا متشككين ومرتابين، نتأرجح دائمًا بين قناعاتنا بسوء ما يضمره الآخرين لنا، وبين لَوْمنا لأنفسنا على ارتيابنا فيمن لا يجب أن نرتاب فيه، ربما هذا التناقض الغريب هو ما يجعلنا نعجز عن تقبل أنفسنا مائة بالمائة، وربما لهذا السبب نكون ذا طبع حادّ ولاذع.
هل تنجح الشخصية الشكاكة في علاقاتها بالآخرين؟
ربما إجابة هذا السؤال ستختلف باختلاف لسان كل شخصية من هذا النوع، النجاح في العلاقات أمر نسبي، ستجد الكثير من الأشخاص الأسوياء جدًّا، الهادئين والعطوفين، المستقرين نفسيًّا، يفشلون في علاقاتهم مع الآخرين سواء من الأسرة أو الأصدقاء أو الزوج، لذا فإن حكمنا على فشل الشخصية الشكاكة في علاقاتها في المجمل أمر غير عادل على الإطلاق، يتوقف مدى نجاح علاقات هذه الشخصية على بعض الطباع الأخرى التي تتوفر فيها، هل هي شخصية حنونة؟ هل يمكن أن تكسر شوكة ارتيابها في المواقف الخطيرة والمهمة؟ هل لديها القدرة إقناع الآخرين بأنها لا تثق إلا فيهم؟ كلها عوامل إن توفرت في الشخصية الشكاكة نجحت علاقاتها بجميع من يهموها.
لذا فإن وجهة نظري الشخصية أننا ناجحون جدًّا في علاقاتنا مع من نحب، إلا أننا فاشلون داخليًّا، بمعنى أننا يمكن أن نمنح الآخر هدوء وبداخلنا عواصف، أن نعطيه الثقة ونجعله يصدق ذلك تمامًا وهناك بركان من الأفكار الارتيابية التي لا تهدأ بداخلنا، هناك مئات من المحادثات الوهمية التي تحدث بيننا وبين الآخرين، هناك عشرات المواقف التي نسجها عقلنا بتشتته وارتيابه، وهناك في المقابل عشرات من ردود الفعل المختلفة التي قمنا بها في عقلنا ردًّا على هذه المواقف، إنه سجن لا أستطيع أن أجزم إن كنّا وُضعنا فيه أم أننا وَضعنا أنفسنا فيه بأنفسنا، وعلى الرغم من أنه سجن غير قابل للتحرر منه فيزيائيًا، لكنه قابل للترك روحيًّا بعض الوقت، قابل للتناسي في أوقات الصفاء، ويمكن تسكينه عندما تسكن أجسادنا بجوار من نحب.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 11,872
مقال مثير حول الشخصية الشكاكة وما تتعرض له من مصاعب
link https://ziid.net/?p=62320