ماذا تعرف عن اللغة الأمّ؟ (رحلتي في تعلّم اللغة العربية الفصحى)
كان شعورًا شديد الغرابة، حين اكتشفت أن اللغة العربية ليست أمي الحقيقية، ولكن الرحلة لاكتشاف اللغة كانت ممتعة ومثيرة
add تابِعني remove_red_eye 4,170
قال جوته الأديب الألماني العظيم عن اللغة العربية:
“أكثر ما حصلته منها كان عن طريق الغزو والإغارة عليها وليس عن طريق الدراسة المنتظمة”
وهكذا هي الحقيقة في رحلتي الماتعة مع العربية، الغزو والإغارة والاقتحام، تلك المصطلحات الموحية المشحونة بالقوة والرغبة والاندفاع هي التعبير الأمثل عن الرحلة الطويلة في تعلّمي العربية منذ الطفولة حتى الآن.
اللغة الأم
تُعرّف اللغة الأم بمئات التعريفات التي تدور حول أنها أول لغة يتعلمها الطفل، واللغة التي يستطيع التعبير بها عن نفسه، ولذلك تمّ ربطها بالأمّ لتشابهها العميق مع دور الأم في حياة طفلها، فالأمّ هي أول من يتعرّف عليه الإنسان ويرى العالم من خلالها، كذلك اللغة الأمّ أول ما يطرق سمع الطفل فينمو وهو يتكلم بها ويعبر عن مشاعره المختلفة من خلال مفرادتها ودلالاتها وتراكيبها التي سمعها فاختلطت بنفسه ووجدانه.
هل اللغة العربية هي لغتنا الأمّ؟
نحن أبناء العرب فسدت علاقتنا بالعربية في جوانب كثيرة لأسباب كثيرة نسردها في مقال آخر، وربما لم نَرِثْ من اللغة العربية الفصحى إلا أصواتها وبعض مفرداتها وتراكيبها التي بقيت في عاميّاتنا، تلك الأصوات التي صَعُبَ على الأجهزة النطقية لكثيرٍ من البشر نطقها إلا بعد تدريب طويل أثناء تعلّمهم للغة العربية؛ لأننا على الحقيقة أبناء اللهَجات العامية التي انبثقت عن العربية.
وتُعَدّ هذه اللهجات هي لُغاتُنا الأمّ التي احتضنت ألسنتَنا كما فعلت معنا أمهاتنا، فنحن وَفْقًا لهذا لا يمكن أن تكون العربية الفصحى هي لغتنا الأمّ اليوم، كما كانت عند العرب الأقحاح الذين تكلموها بغير تلقين ولا تعليم، والدليل على هذا الأمر هو أننا عندما نبكي لا نقول مثلا: “إنني مقهور من فرط الألم” أو عندما نتشاجر لا ننفعل ولا نحبّ ولا نعشق باللغة العربية الفصحى، حتى الشجارات والسباب في حياتنا لا يكون “ثكلتك أمك يا رجل”.
هل نحن إذًا أبناء العاميّات
هذا ما اكتشفته بعد أعوام وأعوام من دراسة العربية والتخصص فيها علميًّا وعمليًّا ولا يُعدّ هذا عيبًا أو قدحًا في العاميات واللهجات التي هي مزيج من اللغة العربية الفصحى واللغات (الأصلية للبلدان)، فاللعاميات فنّها وجمالها الخاصّ بها كما أن للفصحى جمالها الخاصّ بها.
بداية الرحلة
بدأت القصة من معلمتي في الصف الأول الابتدائي، تلك الفتاه المرِحة الجميلة التي كانت تعلمني اللغة كلعبة نلعبها ونتبادل فيها الأدوار، كانت تجلسني لتشرح لي الدرس ثم تتبادل معي دور المعلمة فأقوم أنا بتعليمها بدوري! توالت السنوات وأنا أدرسُ اللغة العربية في حصص المدرسة، ثم تنقطع علاقتي بها بمجرد انتهاء الدراسة في فصل الصيف، أسمع القرآن فلا أفهمه، وأجلس مع أبي وهو يتابع أحاديث(الشيخ الشعراوي) فلا أفهم شيئًا مما يقول الشيخ.
بعد كل هذه الساعات التي أقضيها في حصص اللغة العربية في المدرسة، تحسن الأمر مع كل سنة كنت أكبر فيها وتزداد فيها حصيلة المنهج الدراسي المدرسي من الشعر والأدب والبلاغة وغيرها، ومع أستاذي الحبيب ( مستر إبراهيم )الذي سهّل علي دومًا كلّ قضايا العربية، من الصف الخامس الابتدائي حتى الثالث الثانوي بخفة ظله وروحه الجميلة حتى وصلت إلى الصف الثالث الثانوي وبدأت مرحلة جديدة يمكنني أن أقول إنها بداية علاقتي الحقيقية مع اللغة العربية.
القراءة في كتب التراث
بدأت في قراءة الكثير من كتب التراث مثل رياض الصالحين، وكتب العقيدة الإسلامية ، وتفسير القرآن الكريم لابن كثير وغيره، وكتب الزهد والرقائق لابن القيم وابن الجوزي وغيرهم، كنت أجد صعوبة بالغة في القراءة أول الأمر حتى تحسنت قدرتي تدريجيًّا على فَهم الأصعب من اللغة، تطورتُ للأفضل كثيرًا حتى اتخذت قرارًا بالالتحاق بكلية دار العلوم لأبدأ مرحلة جديدة أخرى مع اللغة العربية الفصحى .
في دار العلوم كانت لنا أيام
كانت كلية دار العلوم آنذاكَ (عالمًا متكاملًا للغة العربية) تعلّمت فيها اللغة العربية بطريقتين مختلفتين كما يطلق عليهما علم اللغة الحديث:
الطريقة الأولى
الأكاديمية (النظرية) التي تقوم على تلقين الإنسان القواعد النظرية للقوانين الخفية التي تحكم اللغات، تمامًا مثلما يحدث للأطفال في المدارس ولكنهم يخرجون في نهاية المطاف غير مُتْقنين لتلك اللغات مما يجعل تلك الطريقة غير فعّالة وناقصة تمامًا في تعليم اللغات.
والطريقة الثانية طريقة (الانغماس)
وهي الطريقة الأكثر فاعلية كما يؤكد علم اللغة التطبيقي في تعلّم اللغات (الأجنبية)، والانغماس طريقة فطريّة أو مشابهة للطريقة الفطرية في اكتساب اللغة عند الأطفال ولكنها للبالغين، وهي تعني أن يتعّرض المتعلّم للغة في بيئتها الأصلية ومع ثقافتها فتثمر اكتسابًا أو تعلُّما لأنماط اللغة بوَعْي أو بغير وَعْي لتلك القوانين الخفيّة التي تحكم داخل اللغة، قوامها الاستماع والتحدث بهذه اللغة .
سنواتٌ جميلة قضيتها في دار العلوم؛ أستمع إلى أساتذة النحو والصرف والعَروض والأدب العربي وتاريخ الأدب وتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده وآدابهم في الجاهلية والإسلام، أدرسه وأتلوه وأحفظه تارة وأتكلم به تارة أخرى، حتى أصبحتُ أمارس اللغة بكافة أركانها (استماعًا وتحدثًا وقراءةً وكتابًة) فاختلف لساني واختلفت وعلاقتي باللغة اختلافًا كاملًا عمّا كُنْتُه قبل التحاقي بدار العلوم.
بالطبع لم ترسخ في ذهني كلّ قواعد النحو والصرف والعَروض والشواهد النحوية والصرفية من الأدب ولكنني اكتسبت ما يعرف (بروح اللغة). لم يعد يخطئ بعدها لساني في مخارج الألفاظ العربية، استطعت أن أفهم أيّ متحدثٍ للغة، استطعت أن أقرأ الكثير من الكتب الصعبة بشيء من اليسر، وأن ألتقط المعاني البلاغية وحدي بدون أستاذ، وتصكّ أذني أخطاء اللغة الشائعة، ولا أدَّعي أنني وصلت إلى المستوى الذي أريد بَعْدُ ولكنني استطعت أخيًرا مصاحبة العربية.
تعليم اللغة العربية
عندما انتهيت من الدراسة بدأت في تعليم اللغة العربية للأطفال أوّلًا، ثلاث سنوات قضيتهم في صحبة الملائكة الصغار ورأيتُ كيف نكون في طفولتنا في أتمّ الاستعداد لتلقي ما يعلمه الآخرون لنا، وأدركتُ كيف يشوّه نظام التعليم والمناهج الموضوعة قدرة الطفل على إتقان لغته الأولى (وليست الأمّ) بالطبع فالعاميات العربية هي اللغات الأمّ الحقيقية لنا كما ذكرت سابقًا.
حلم قديم
وبعدما اكتفيت من عالم المدرسة والصغار، اخترتُ أن أحققَ حُلمًا قديمًا، في الصف الثانوي عندما سافرت مع عائلتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وذهبنا في يوم الجمعة إلى الصلاة فسمعت الإمام وهو يتقطع في قراءة الحديث ولا يُحسِن شرحه، وتساءلت يومها في ذهني عن إمكانية تعليم اللغة العربية لغير أهلها كيف يكون؟
اللغة العربية لغير الناطقين بها
بدأت بخطواتٍ جادة نحو تعليم اللغة العربية للطلاب غير الناطقين بها؛ فالتحقتُ بكليّة (الدراسات العليا للتربية) بجامعة القاهرة ، رائدة هذا المجال في مصر والعالم العربي، وهناك فقط بدأت أتعلّم (كيف يكتسب الإنسان لغته الأمّ) وكيف يتعّلم لغة أجنبية جديدة عليه وما الفرق بين الأمرين. وكان لأساتذتي رواد هذا المجال في مصر في كلية الدراسات العليا تحديدًا في قسم (المناهج وطرائق التدريس) فضل عظيم عليّ في تعلمي فنّ تعليم اللغة، سواء كان للعرب أو لغيرهم، أنا الذي كان الجميع يثنون على مهاراتي الرائعة في التدريس قبل ذلك.
محاضرات أستاذتي الحبيبة ( إيمان هريدي ) تلك المرأة التي رأيت في عينيها دومًا عشقا لما تفعل، رأيت معلمة تمزج الشغف والمغامرة والاكتشاف وحب العلم، وتعلمت منها كيف يقف المعلم أمام طلابه وماذا يقول وماذا يدَع، أستاذي الدكتور (محمد لطفي جاد) ذلك الخطيب المفوّه الذي تعلمت منه الحذَر والتأني في اختيار الحرف الذي سيعلم للطالب غير الناطق بالعربية، وكم يكون المعلم مشرقًا حينما يتشرّب العربية من منابعها الأصيلة.
والأستاذ الفاضل (مصطفى عرابي) الذي أشرف علي ورفقاء الدرب الأحبة في رفع كفاءتنا كمعلمين وفي تدريبنا على تأليف محتوى خاصّ بنا وتدريسه للطالب الأجنبي فيما يعرف (بالتدريس المصغّر). عرفت أنني في دار العلوم تعلمت فنون اللغة العربية ومباهجها، ولكنني هنا تعلمت فنون تعليم اللغة العربية والفارق كبير بين الأمرين لأنه ليس كل متقنٍ للغة بجيد تعليمها للآخرين، ولا أنسى آخرين ممن أضافوا لي من غير أساتذة الكلية.
(أستاذ سويفي فتحي) ذلك المعلم المبدع البارع في مجاله الذي علمني قيمة الانفتاح والتجدد دائمًا في تعليم العربية لغير أهلها والكثير مما لا يسعني ذكره هنا. (الدكتور خالد أبو عمشة ) ومحاضراته وكتبه العلمية الغزيرة التي لا غنى عنها لأي باحث في المجال التي لم تخل من جديد ومثمر ومفيد وحديث في هذا المجال، وكان عالَمًا جديدًا بالغَ الجَمال والصعوبة والمسؤولية، حين بدأتُ التدريس الفعلي للغة العربية للأجانب، كنت أقضي (خمس ساعات أسبوعيًّا) أتكلمُ فيها باللغة العربية الفصحى وفقط.
فأضحك مع الطلاب، وألعب معهم (الألعاب اللغوية)، وأمارس معهم طقوسًا ثقافية باللغة العربية الفصحى، أصحح لهم الأخطاء اللغوية في القراءة والكتابة، وأخطاء النطق، أختار مواد مسموعة باللغة العربية من مسلسلات وبرامج وأشعار تناسب مستواهم اللغوي كي أحاول تهيئة الأجواء الثقافية الافتراضية المناسبة لهم، أدرّبهم على الحفلات الختامية فأغنّي معهم باللغة العربية الفصحى وألقي معهم الشعر وغير ذلك من الأوقات الجميلة .
كنت أتعلم معهم أيضًا، وأنغمِس في ممارسة لغتي العربية لفترات طويلة، ربما لو كنت انغمست فيها وأنا طفلة لصارَ من اليسير عليّ وأنا في هذا السن أن أنتهي من كتاب للجاحظ في يومين أو ثلاثة.
للمزيد عن اللغة العربية
add تابِعني remove_red_eye 4,170
تجربة ملهمة حول رحلة لغوية للتعرف على اللغة الأم
link https://ziid.net/?p=61013