الوصية الذهبية نحو قراءة أكثر إنتاجية
حين تنجز قراءة عشرات الكتب ثم تتفاجأ بضعف استذكارك لما قرأت فأنت بحاجة إلى طريقة لتحسين القراءة واستذكار الفوائد.
add تابِعني remove_red_eye 909
قارئي العزيز: لن أعلمك كيف تقرأ، فالعلم بذلك قد فرغ، إنما أخبرك عن “كيف قيدتُ هذا العلم” فلم يطوه النسيان. بداية، كنتُ ممن اغتر في فترة من حياته بذاكرته [1] فأقرأ وأحفظ وأناقش بذلك صحبتي من “المختارين” [2] فأجده في عقلي إذ ذاك مركونا محفوظا، فغرني سعة فهمي، ووسع حفظي، فظننت أن “بالذاكرة” كفاية جهدي، فماذا بعد ؟
تعلم أن الإنسان كثير القراءة، والحفظ ملكة تزداد جدارتها “بالمراجعة” والأهم والذي عليه مدار مقالي “بالكتابة”. دع عنك المسلمات من المعلومات السهلة الميسرة التي رسخت في صغرنا، تلك بدايات العلم وما يتناسب مع “عقلية المتعلم”، إذ سهولتها ويسرها جعلها تتجذر في عقولنا فلم تحتج بعد ذلك إلى “تقييد كتابي” فالإنسان في طور نموه المستمر كثير القراءة، كلما كثرتْ وسعت مداركه، وما لم يتناسب معنا في صغرنا فقهناه في شبابنا، وهكذا. تخيل معي فقط مسيرة الإنسان العمرية لو حسبنا عمر قراءته الحقيقية منذ سن العشرين مثلا إلى عمر الثلاثين تقريبا، عدد ضخم, وعلم جم, إن كان من “ذوي النهم” [3], فما السبيل إلى تنظيمها ودرء بعثرتها في الذاكرة ؟ جاء في الأثر : (قيدوا العلم بالكتاب) [4] .
“قيدوا العلم بالكتاب”
لكل موقف أثره الذي يصدقه “التفاعل” فإن ضعف التفاعل ضعف أثر الموقف المعايش، فالقراءة لحظة معايشة ثمينة بالقدر الذي يعي فيها صاحبها أهميتها فيسعى لحفظها بما علم من مناهج تطبيقية تساعده في ذلك، ولا أصفى وأزكى لعقل المرء من “خطه علمَه بيده”.
فمن منطلق تجربة عايشتها شخصيا أمضيت فترتي الأخيرة بالكتابة عبر لوحة المفاتيح استغناءً عن عناء الكتابة باليد إذ عرضتني لكثير من “آلام المفاصل” [5]، والحقيقة أن غزارة ما كنت أكتبه سابقا بخطي ضعف مع الكتابة الإلكترونية، ناهيك عن الضرر الصحي الناجم عن إطالة المكوث أمام الحاسوب، كذلك فقدي للأثر “الجمالي” ومتعته، ولا عجب، فلذة ملامسة القلم، وتقليب الصفحات، والمتعة البصرية حين أجد مخزوني الفكري ممثلا في صفحات أمامي لا تعادلها ضغطات كيبوردية تغلق وقد تفقد وتمحى بأدنى خلل تقني، والذي ينافي النقطة الأهم في حفظ المعلومات واسترجاعها بسهولة وأمان.
كذلك في حقيقة “فائدتها العلمية والعقلية”, فما من كتاب وإن كبر حجمه إلا ويخرج القارئ منه بفوائد ستنسى مع آخر صفحة تقلب، ولو سئل حينها عما قرأ لتلعثمت الثقة فيه، وما استبان جوابا، وما ذاك إلا لضعف “التقييد الكتابي”، ناهيك – أخي القارئ – عن مساوئه المتمثلة في “ضعف التركيز وافتقار المهارة”، إذ تساعد الكتابة اليدوية في تنشيط الدماغ، وتحسين الكتابة الإملائية وتجميل الخط، وزيادة التركيز، لا سيما لكبار السن في تقويتها للذاكرة.
ويبقى السؤال..
ما هو الأسلوب الأمثل في طريقة التقييد الكتابي للعلم ؟
بعد تبيان التجربة وتقرير فوائدها يأتي ذكر الأسلوب الأمثل في تقييد الكتابة، وإن كنت أنبه أولا أن لكل قارئ أسلوبه المتفرد، وقد يستحب شيئا لا يحبذه غيره، وما تقييد التجارب بالكتابة للآخرين إلا استحبابا في نشر الفائدة قد يجد فيها أحدهم ضالته فتنفعه.
أولا: التعداد:
فغالبا ما تحوي الكتب فوائد بإمكان القارئ وضعها في تقسيمات أو تعداد نقطي، كالكتب الشرعية مثلا في كتب “الأحكام والحدود” يضمن القارئ فوائدها بالكتابة في أوراق خارجية يقسمها ما بين “محرم وواجب ومستحب ومكروه” لكل قسم ما تناولته من أمثلة.
ثانيا: الحوار:
كنقاش بين القارئ ونفسه فيما فهم أو كتابة سؤال على فقرة وجوابها، ففي كتب “العقيدة” مثلا المليئة بالتصنيفات، والأدلة، والحجج، نجد مؤلفا مميزا بعنوان : “اللآلئ البهية في تقريب شرح العقيدة الطحاوية” للمؤلف أ.د. محمد بن عبد الرحمن الخميس، جعل كاتبه طريقة عرضه لمؤلفه على هيئة “أسئلة وأجوبة” لكل قسم من أقسام هذا العلم تسهيلا للقارئ وتيسيرا عليه، كذلك تقريبه لطلاب العلم مع التعليق عليه إذ غالبا ما تحوي الكتب المتخصصة في هذا الجانب كثيرا من التطويل والإسهاب.
ثالثا: الاختصار:
غالبا ما تبسط الكتب الفوائد والدراسات، وقد تستدعي الاختصار تحاشيا لطولها الممل، لذا فالقارئ “المبتدئ” غالبا ما تساعده هذه الطريقة في ملئ مخزونه الفكري وتحقيق الفائدة الأهم من قراءته للكتاب لذلك تساعد البحوث الجامعية والدراسية مثلا الطلبة على فهم المقررات بفرض الواجبات المعتمدة على “البحث في المراجع” و”تلخيص الكتب” فالقراءة الأولى لا تكفي أبدا كذلك كثير من المبادرات الاجتماعية التي تنظم على هيئة “مسابقات” تهدف فيها إلى تعزيز القراءة باعتماد الملخصات التي تستهوي الشباب كمبادرة “كتاب في دقائق” الذي تدعمه مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، إذ تمثل نقلة نوعية ببساطة فكرتها في عملية نشر الثقافة كما جاء في تعريف المبادرة [6].
رابعا: مراجعة أو “قراءة”:
وتعتبر هذه النقطة – في نظري – الأهم والأثمن، وتختلف عن نقطة “الاختصار” بأن القارئ أو الكاتب يشارك فيها رأيه ويبني “مراجعته” عليها، إذ تلهمه في بناء تصور سليم عن الموضوع المناقش، قد يوافق الكاتب أو يخالفه فيها، وغالبا ما تكون المراجعات والقراءات تلخيصا لفحوى الكتاب وقراءة مغايرة لمضامينه، تزيد من شعبيته ربما بتأييد مضمونه، أو تنقصها بالنقد الرافض، وهذا ما يعزز من فائدة القراءة وتبيان حقيقة فائدة “التقييد الكتابي” إذ لا يتوصل إلى ذلك بالحكم غالبا إلا قارئ نهم تعينه على بناء رأيه الخالص، وفتح عوالم أفكار جديدة، قد لا يقف عليها القارئ المبتدئ في قراءته للكتاب، ويتضح في ذلك أثرها النفعي العلمي لكلا الطرفين.
أخيرا:
تعلم عزيزي القارئ أن من يكتنز شيئا يحفظه بكل طرق السلامة وما أكرم من العلم على العقل اكتنازا يحفظه صاحبه تدريسا وكتابة، فكم غبطتك نفسك حين أردت استذكار معلومة فائتة، فخانتك ذاكرتك فتنميت لو أن كان لك ملخص تجمع فيه “لب الفوائد”، فما تلك إلا طريقة العلماء والحكماء والموفقين من طلبة العلم، ولا يعجزك مماثلتهم واذكر قول الشاعر :
العلم صيد والكتابة قيده ** قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ** وتتركها بين الخلائق طالقة!
دمتم بإنتاجية.
[1]. ذكر الشيخ : علي الطنطاوي – رحمه الله – في كتابه “الذكريات” ذات التجربة أنه ممن كان يعتمد على ذاكرته بداية حياته في قراءاته ومواقفه وقد خانته في آخر عمره حين احتاج إليها.
[2]. الصحبة المعينة التي تميل النفس إليها, فتختارها من بين الكثير, إذ يوافقون الطبع, ويحسنون السمع .
[3]. القارئ النهم أي: كثير القراءة.
[4]. الألباني, السلسلة الصحيحة, عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو بن العاص, وابن عباس, 2026 .
[5]. وقد يرتبط هذا بسوء التغذية وقلة الفيتامينات، علاوة على أن “الإكثار من الشيء” له عواقبه بلا شك، لذا فالإقلال “الصحي” مطلوب.
add تابِعني remove_red_eye 909
مقال متميز حول تحويل القرأة لنشاط أكثر إنتاجية وفائدة
link https://ziid.net/?p=12400