لعنة الوحدة التي تلازم الكاتبات (مراجعة رواية: الكاتبات والوحدة)
الكاتبات والوحدة .. أخر ما أصدرت نورا ناجي عن عشر كاتبات، لكنها لم تكتب عنهن فقط بل كتبت عن جميع الكاتبات وأنا منهم.
add تابِعني remove_red_eye 61,969
“لو أستطيع أن ألغي ذاتي، أو أولد في مكانٍ أخر وزمان أخر؟ زمان أخر…زمان أخر… ربما ولدت في الزمن الخطأ” الحب والصمت. لم ينعم الله علي بنعمة العزلة، لقد ولدت في بيت يكتظ بالناس، ثلاثة من الأخوة غيري، أخت تشاركني الغرفة ذاتها، والحياة ذاتها، ومنزل لا يحب ذويه أن ينعزل أحدهم بعيدًا عنهم، ما أن أغيب عن ناظري والدي حتي يناديني، ويسألني ما الذي حدث معك، هل أغضبك أحد؟
هل حدث شيء معك، تحمل نظرات عينيه الحيرة والخوف والتشكك، وأنا بطفولتي أفهمه، أفهم أنه يخاف علي للدرجة التي تجعله قد يقتلني حبًّا وخوفًا، فالاهتمام في بعض الأحيان يصنع حبلًا يلتف حول جيدك ويخنقك، ولكن على الرغم من كل هؤلاء حولي، من نداء أمي المتكرر لاسمي، من اهتمام أبي بوجودي معهم أثناء تناول الطعام حتى حينما لا أرغب في الأكل، على الرغم من أختي التي تعانقني بيديها وتحكي لي حكاية قبل النوم، وتستمع إلى أحاديثي الملفقة.
أحاديثي التي لا مكان لها سوى رأسي، على الرغم من أنني كنت طفلة في عمر الزهور فإنني كنت أشعر باغتراب، أغمض عيني وأتخيل حيوات أخرى لم يمن الله علي بها، بقدر ما أعطاني الله من ناس في حياتي فإنه أعطاني معهم شعورًا بالغربة، كلما كبرت زادت حدته، وكبر معي، حتى إنني حينما بدأت نسج خيوط الحكايات وتشكيلها، كنت أكتب لأجعل الوحدة تزول، ولكنني كلما أتقنت الكتابة، كلما زاد اغترابي، كلما ابتلعتني الوحدة.
الكاتبات والشعور بالوحدة
“حينما فكرت في الكتابة عن هذا الشعور بالوحدة، وجدت حولي كتبًا لكاتبات يشاركنني نفس الشعور، أصادف جملة تصف جزءًا من حياتي على نحوٍ مدهش، كأنني من كتبها” نورا ناجي- الكاتبات والوحدة
يومًا ما، وقعت في يدي رواية “بنات الباشا” ما إن قرأت صفحتها الأولى حتى غَرِقتُ فيها، من صفحة لصفحة ألتهمها وأنا التي لا تهتم بكتابة رأيها كتبت رأيي، فأشار أحد الأصدقاء للكاتبة “نورا ناجي” ومن هنا عرفتها، لقد جاءت تلك الرواية وفقًا لتصوري عن الكتابة عن النساء، إنها نوعٌ من الحكي المدهش، مثل عشر نساء التي أسرتني لفترةٍ طويلة لا أتمكن من مغادرتها ولا تتركني، منذ ذلك الحين وأنا أشعر أن رباطًا خفيًّا بيننا.
في الواقع بعد قراءة الكاتبات والوحدة اكتشفت أن ذلك الرباط ليس بيني وبينها فحسب، إنما يمتد جامعًا بين كل الكاتبات، أولئك النساء اللواتي اختارهن القدر بعنايته ليحملن رسالة معينة، إنهن حتى يتصلن بأولئك النساء اللائي لم يكتشفن بعد موهبتهن في الكتابة، لكن الشراكة في المعاناة والوحدة، والأمل، والأحلام تجمعهن، منذ ذلك الحين وأنا أهتم بكل ما تكتبه، قرأت “الجدار” والتي أثرت فيّ بمثل سابقتها، وذات يوم لمحة عنوان سلسلة من المقالات تسمى “الكاتبات والوحدة” لقد جذبني العنوان بشدة، كاتبة منا تكتب عن الوحدة، كاتبة منا ستصف أخيرًا المعاناة التي نشعر بها ولا نستطيع وصفها، لكنني حينما فتحت أول المقالات وجدت شيئًا آخر، شيئًا أكد إحساسي الأول أننا في الهم شريكات، أننا جميعًا نتشارك الشعور ذاته، بالاغتراب والوحدة.
حينما تخذلنا الكتابة
“المثالية أو البحث عن الكمال ليس فقط أمرًا خياليًّا لا يمكن تحقيقه، بل هو أيضًا لعنة على من يؤمن به” نورا ناجي- الكاتبات والوحدة. عشر كاتبات في كتابها، تسع كاتبات عظيمات نعرفهن جميعنا، ربما الوحيدة التي لم أكن أعرفها قبلًا هي “فاليري سولاناس” والتي اختارت لها الكاتبة عنوانًا قاتلًا (حينما تخذلنا الكتابة) حينما تخذلنا الكتابة، قد نموت، قد نجن، لأن الكتابة هي التي تنصفنا، هي التي نغادر من أجلها أي شيء، هي التي نترك الحياة الزائفة في سبيلها، وهذا ما أصاب فاليري الجنون، حينما خذلتها الكتابة.
أما “مي زيادة” فقد خذلها الآخرون، خذلها المحبون، وعنايات قتلها اغترابها، أما عن فيرجينا أكثرهن شبهًا بي، ولا أعرف لماذا أشعر بذلك، فقد قتلها كل شيء، هذا الكتاب سيرة للكاتبة والحزن، والجنون والمعاناة، والمرض والخذلان، حتى الوحيدة التي نجت من الموت حزنًا، وهي رضوى عاشور قتلها السرطان اللعين، لكن على الرغم من ذلك هناك الرقة والعذوبة، التي تنقل بها الكاتبة إلينا تلك القصص، لقد كتبت الكتابة بخفةٍ شديدة، قادرة على تخفيف وقع الحزن في سير أولئك المبدعات، لم تكتب الكاتبة سير عشر كاتبات فحسب، بل كتبت سير الكثيرات منا، اللائي يختبئن خلف كتابتهن، مثلا إيلينا فيرانتي، التي لم يعرف أحد من هي حتى الآن، ومن تكاد تقتلها الهشاشة مثل عنايات الزيات، ومن تحارب في معركتها بضراوة، ولا تعكس سوى وجهًا مبتسمًا للآخرين مثل رضوى عاشور أستاذة التنكر.
وهناك من تبتلع إساءة الأقربين أو تطوى فقدها في الصدر مثل فيرجينا وولف، هناك الكثيرات بالداخل، إنني أزعم أن كلهن هناك، كلهن هناك، رابضات في طفولة نوال، أو الخذلان الذي تعرضت له أروى صالح، إن ما فعلته نورا ناجي في تتبع سير هؤلاء الكاتبات مثل ما فعلته إيمان مرسال في تتبع أثر عنايات الزيات.
غلاف يجسد الوحدة
يوم رأيت الغلاف عرفت أن الشعور بأن شيئًا ما يجمع ما بيني وبين الكاتبة ليس كذبًا، فحينما فتح أبي نافذة جديدة في غرفتي ناحية الشمس، بعد تركيبها وجفاف الإسمنت، ودخول أشعة الشمس، جلست الجلسة ذاتها التي تجلسها الفتاة على الغلاف، وتركت الشمس تفرش أشعتها فوق جسدي، جعلتها تلمسني، لقد كنت أنا تلك اللوحة منذ عامين، فمثلما رأت الكاتبة “أروى صالح” في منامها ربما زار طيفي صاحب فكرة الغلاف التي تمثلني، الكاتبات والوحدة ليس كتابًا فحسب، ليس كتابًا يقرأ ويوضع بين الكتب فحسب إنه كتاب يدخل إلى الجروح مباشرةً، يصف ما تعانيه الكاتبات، وما لا يفهمه أحد، ربما العيب الوحيد فيه أنه لم يكن طويلًا بما يكفي، أنه لم يجمع المزيد من الحكايات، والتي أعتقد أن المخفي منها أكثر بكثير من المعلن.
إليك أيضًا
كيف تعيش بمفردك دون شعور بالوحدة؟
add تابِعني remove_red_eye 61,969
في هذا الكتاب كتبت نورا ناجي عن عشر كاتبات، لكنها لم تكتب عنهن فقط بل كتبت عن جميع الكاتبات وأنا منه
link https://ziid.net/?p=79619