من اكتشف لعنة المومياء الفرعونية؟
آرثر كونان دويل أو شيرلوك هولمز كما يعرفه الكثيرون، الرجل الذي لم يتغلب أبدًا على قناعاته على الرغم مما كتب في مؤلفاته
add تابِعني remove_red_eye 138
كانت المرة الأولى –والعاشرة أيضًا- التي اقرأ فيها رواية “كلب آل باسكرفيل” في البنغال. في مكان عمل والدي بكالكُتا، كان يمتلك مكتبة بها ركنًا صغيرًا ورائعًا حافلًا بترجمة خيال الجريمة “وآرثر كونان دويلي”، -الذي كان سيحتفل بعيد ميلاده الـ (159) هذا الأسبوع في (22) مايو- كان عماد هذا الركن الصغير.
وكانت نسخة الأعمال المُجمعة “لأرثر كونان دويل” متضررة وهالكة للغاية، حيث كان يتعين عليّ قراءتها كلفيفة من العصور الوسطى، وأمسك كل صفحة بشكل منفصل أحيانًا وأتأكد دائمًا من وجود لفافة سميكة من الشريط اللاصق في حالة احتياج الشريط اللاصق نفسه لجرعات زائدة من الإصلاح. لكنني كنت ألفه دائمًا، واستمر في قراءته وإعادة قراءته بتركيز راسخ لا يتزعزع طوال سنوات مراهقتي، لقد ألهمني في كثير من الأحيان أن أرى العالم كمسرح جريمة فكريًّا ولغويًّا، قادتني طريقة الرؤية تلك -في نهاية المطاف-إلى مهنتي كطالب أدب.
بالرجوع للماضي، يبدو غريبًا أن تعلُّقي بخيال الجريمة حدث من خلال عمل دويل وأن يحدث ذلك في بداية الألفية الثالثة في كالكُتا، في المدينة التي لا تزال تتعافى من قرنين من تاريخها الطويل من القمع الاستعماري والمقاومة. دويل نفسه كان مستعمرًا مُخلصًا ومؤمنًا بأن الشمس لا يجب أن تغرُب عن الإمبراطورية البريطانية، ماذا كان يظن في امرأة سمراء تستمتع بأعماله بالهندية بعد الاستعمار، وليس حتى باللغة الإنجليزية؟ ظننت أنه كان ليرفض أو على الأقل كان مرتبكًا، ولو أنه ربما كان ليشعر بالابتهاج الشديد حين يظن أن السكان المحليين أصبحوا في النهاية “مُثقفين”. من يدري ماذا كان سيظن ذلك العجوز الغاضب؟
ولكن على الرغم من أن استعمار دويل كان ليجعله يفكر في قُرائه الهنود، إلا أنه لم يؤثر على نظرتهم إليه والواقع أن عدد الناس الذين يحبون أعماله يتفوقون على أولئك الذين يعرفون وجهات نظره بشأن الاستعمار والإمبراطورية، ذلك أن سلسلة شيرلوك هولمز في الأساس غير سياسية وعقلانية بشكل سافر، ومن الغريب أن العاطفة -وعلى وجه التحديد السياسة العاطفية- غائبة من أي نوع. القوة تكمن في أن هذه القصص مخبأة على الدوام خلف مشاكل يمكن حلها: فالأمراء يبتزون، وتماثيل نابليون تُخفي الأحجار الكريمة.
إن السياسة العاطفية الذي يبثها دويل، ومساعيه العاطفية إلى اللاعقلانية، يظل من المستحيل كشفها في قصص شارلوك هولمز ورواياته. ولعل هذا هو السبب الذي يجعل هذه الأعمال تحظى بشعبية كبيرة مقارنة بخلافه القوطي الأخير المليء بالقناعة والبلاغة. على النقيض الآخر، كما يشير العالم مارتن كيمان، شارلوك هولمز كان يتمتع بشعبية كبيرة لدى أصحاب الطبقة الوسطى في العصر الفيكتوري تحديدًا لأن تلك القصص، على عكس القصص اللاحقة، “تحتفل بقدرة العقلانية على تنظيم مادة الوجود بشكل هادف، والسلطة للفرد العقلاني لحمايتنا من الفوضى السيمائية والأخلاقية”.
إن السياسة العاطفية الذي يبثها دويل، ومساعيه العاطفية إلى اللاعقلانية، تظل من المستحيل كشفها في قصص شيرلوك هولمز ورواياته. ومع ذلك، على الرغم من هذا التدريج الدرامي العقلاني الذي من شأنه أن يحدد مهنة آرثر كونان دويل، فقد كان مفكرًا يؤمن بالخرافات في السنوات اللاحقة أكثر مما قد يوحي به شرلوك هولمز، الإلحاد بالكاد مخفي. وربما كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة أنه كان أيضًا إمبرياليًّا عنيدًا ولديه هوس بغيض لمصر، وهي دولة زارها مرة واحدة فقط عام (1846م) ولم يعد إليها أبدًا.
لم يمنعه هذا الافتقار إلى الخبرة المباشرة لمصر أو ثقافتها من الحصول على آراء قوية (كما سيظهر أنها مؤثرة) حول آثار مصر القديمة، والتي تم اكتشافها بوتيرة أعلى في أواخر القرن التاسع عشر بفضل الكفاءة وجهد علماء الآثار الإنجليز. بينما كتب دويل في عام (1896م9 أنه وجد الحضارة المصرية نفسها “حقيرة” و “مقيدة”، استمر تأثره بالمومياوات والأهرامات والمخطوطات التي تم اكتشافها واستمر في إدراجها كدعامات في روايته
في القصة القصيرة -لوط رقم 249- والتي نُشرت عام (1894)، نقرأ قصة بيلينجهام، أوكسونيون الذي يتقن اللغة العربية واللغات الشرقية القديمة، وغرفته الدراسية تعتبر متحفًا وليس مكانًا للدراسة. الشيء الأكثر لفتًا للانتباه في بيلينجهام هو ما يقف في منتصف هذه الدراسة الشبيهة بالمتحف له: “شيء فظيع أسود ذابل، مثل رأس متفحّم على شجيرة شائكة، [هذا] كان نصفه خارج القضية، بيدها التي تشبه المخلب وساعدها العظمي على الطاولة. “هذا وصف قوطي كلاسيكي لمومياء، يشبه ظهورها في قصة دويل مخلوق فرانكشتاين أكثر من أي بقايا قديمة. وتستمر القصة لتروي شرارة حيوية قاتمة، علامة خافتة من الوعي في العيون الصغيرة التي كانت كامنة في أعماق [المومياء] المجوفة”.
لم يكن هذا هو الظهور الوحيد للقطع الأثرية المصرية الخبيثة في عمل دويل. استمر في كتابة “خاتم تحوت” في عام (1890م) ونشره في مجلة كرونهيل، كانت هذه قصة أخرى عن بقايا مصرية، حلقة كانت بمثابة ترياق للسم. وُضعت القصة في متحف اللوفر في باريس، وأحد الأشياء المهمة التي يجب ملاحظتها هنا هو أنه بينما استمر دويل في بناء قصصه على الآثار المصرية القديمة، فإن مصر نفسها القديمة أو الحديثة، لم يكن لها دور مهم في هذه القصص. بدلًا من ذلك، كان شيئًا مقطوعًا -بقايا مسروقة، مستعمرة، مدنسة مثل مومياء أو حلقة- التي أصبحت سبب الكارثة، والتي سيتم حلها بعد ذلك عن طريق الذكاء والجهود الإنجليزية. والأهم من ذلك، في أيدي خبراء دويل كانت مصر دائمًا مصدرًا للإيذاء والمشاكل وتجنب الأزمات في بيئة أوروبية مثل أكسفورد أو باريس، كانت مصر على الدوام مصدرًا للنبذ والمتاعب وتجنب الأزمات لبيئة أوروبية في أيدي خبراء دويل
عمل دويل الروائي الوحيد (الذي أعرفه) والذي تلعب فيه مصر دورًا كفضاء وبيئة معيشية هو مأساة كوروسكو ، التي كتبت عام (1898م) في القصة، قامت مجموعة من السياح الأوروبيين والأمريكيين بزيارة الأماكن المقدسة من قَبْل يختطف متمردون سودانيون لا يرحمون نهر النيل في الصحراء. كما يشير الناقد روجر لاكهيرست في كتابه لعنة المومياء، فإن نشر هذه القصة القصيرة تزامن مع فترة منح الجنرال البريطاني هربرت كيتشنر إذنًا للتقدم إلى السودان، مما أدى إلى تدمير آخر موقف للقوات المهدية في معركة أم درمان بالقوة الساحقة وقتل عشرين ألف رجل وإعدام الجرحى في أعقاب المعركة (لاكهورست، 158). ومع ذلك، فإن انشغال دويل في هذه القصة هو التطرف والقسوة وكراهية النساء في السودان فقط، في حين لم تُقَل كلمة واحدة عن القوة المرعبة للجيش البريطاني المصري.
يستمر سياق هذه القصة بالذات في إظهار أن مساهمات دويل في النهضة القوطية الفيكتورية (1850-1900) تزامنت مع ما أطلق عليه المؤرخ إريك هوبسباوم “عصر نوع جديد من الإمبراطورية” أكثر من أي شيء آخر. على وجه التحديد، بدأ اتجاه تصوير مصر في النوع الذي أصبح يعرف باسم الإمبراطورية القوطية في إنجلترا. كان هذا اتجاهًا ميزته الرئيسية هي تصوير إمبراطورية إنجلترا كمكان للشر غير العقلاني والطبيعة الفائقة التي لا يمكن هزيمتها إلا من خلال وكالة الناطقين باللغة الإنجليزية، والبِيض، والإبداع الإنجليزي. المسار التاريخي لهذه السنوات يجعل موقف دويل أكثر بروزًا.
في عام (1882م)، فقدت مصر موقعها كخديوي متحالف مع الإمبراطورية العثمانية ووجدت نفسها محتلة من قبل القوات البريطانية. ستبقى تحت هذا الاحتلال حتى أزمة السويس في منتصف القرن العشرين (هذا هو أيضًا شكل تاريخ الهند، الذي حكمه البريطانيون بقوة أكبر بعد الثورة الفاشلة عام (1857م) واستمرت كمستعمرة بريطانية حتى عام 1947م) في عام (1885م) لم تنعقد إنجلترا فحسب، بل اجتمعت معظم دول أوروبا. تقطيع الأراضي الإفريقية باستمرار إلى معونات يمكن إدارتها خلال مؤتمر برلين، أصبحت فكرة الإمبراطورية -أكثر من أيّ وقت مضى- ممارسة وانتصارًا وأسلوب حياة.
كان هذا اتجاهًا ميزته الرئيسية هي تصوير إمبراطورية إنجلترا كمكان للشر غير العقلاني والطبيعية الفائقة التي لا يمكن هزيمتها إلا من خلال وكالة الناطقين باللغة الإنجليزية، وذوات البشرة البيضاء، والإبداع الإنجليزي. ومع ذلك، كانت هناك أوقات تداعى فيها شعور دويل باستحقاق مصر. كانت أكثر اللحظات شهرة بعد الموت الغامض لإيرل كارنارفون الخامس، الذي مول وأشرف على أعمال التنقيب في قبر الملك توتنخ آمون في شتاء (1922-1923م) بعد أيام قليلة من انتهاء أعمال التنقيب، تعرض اللورد كارنارفون للعض من قبل بعوضة في فندق سافوي حيث كان يقيم في القاهرة، أصيب الجرح بالعدوى أثناء الحلاقة وانتهى به الأمر بعدوى قاتلة في الدم ومات قبل نقله إلى إنجلترا لتلقي العلاج، توفي في الخامس من أبريل سنة 1923م.
في اليوم التالي، وصل السير دويل إلى الشواطئ الأمريكية حيث كان يحاضر في الروحانيات. عند هذه النقطة، سأله الصحفيون عما صنعه من الموت الغامض، فأجاب أن “عنصرًا شريرًا ربما تسبب في مرض اللورد كارنارفون المميت” في غضون ذلك، ذكرت صحيفة “مورنينغ بوست” أن دويل يعتقد أنه “من الخطر على اللورد كارنارفون دخول قبر توت عنخ آمون، بسبب تأثيرات غامضة وروحية أخرى”.
لقد كان أحد الأصوات الفيكتورية التنجيمية التي أدت إلى لعنة المومياء، وهي اليوم مجاز مشرق معروف في السينما والخيال. بطريقة ما وعلى الرغم من ذلك، فقد تهربت حياة دويل الآخرة ككاتب ومفكر من علاقته بمصر وبالقوط المصري، اليوم نعرفه بشكل أساسي على أنه مبتكر شرلوك هولمز وجون واتسون -المحققون الكبار في شارع بيكر في لندن (وأيضًا نيويورك، إذا كنت من محبي التكيف الابتدائي، كما أنا) لكن آرثر كونان دويل كان له العديد من الأشياء – جراح مدرب، وكاتب لروايات الجريمة، وكاتب غزير الإنتاج للقوطية، وإمبريالي، وأحد آباء لعنة المومياء.
وفي ذكرى مولده، أود أن نتذكر هذا الرجل الغريب -عقلانيته وروحانيته، استعماره وانشغالاته الاستشراقية وكل تناقضاته العديدة- ونذكر أنفسنا بأن السير آرثر كونان دويل هو أكثر بكثير من مجرد شيرلوك هولمز. على الرغم من أن الرجل نفسه لم يتغلب أبدًا على قناعاته الإمبريالية، إلا أن خليقته -كما يشهد العديد من معجبيه الهنود -تجاوزت مؤلفها.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 138
علاقة الكاتب آرثر كونان دويل بالآثار المصرية ولعنة المومياء
link https://ziid.net/?p=66466