النص ملكًا: عن سلطة النص وتأثير الاقتباس.
لا تصدق كل ما تقرأ، حتى ولو كان الكاتب عظيمًا، لا تصدقني أنا شخصيًّا، تحرر من سلطة النص.
add تابِعني remove_red_eye 230
يقول الأديب المصري الكبير أنيس منصور في إحدى اقتباساته: “إذا كنت تصدق كل ما تقرأ، فلا تقرأ” وهذا في حد ذاته اقتباس، يضع المرء في شيء أشبه بالمعضلة الفلسفية، فإن أخذت به فقد خالفت الوصية، فهو ضمن ما يقرأ، ما لم تكن سمعته من الكاتب الذي وافته المنية في العام 2009.
للاقتباس سلطة على النفوس وشرعية في توجيه الأفكار أخذتها من أصحاب هذه الاقتباسات، وكـأن من قرأ اقتباس أينشتاين، سيستيقظ غدًا ليكمل لغز الفيزياء الأعظم ويكمل الرابط بين النظرية النسبية والكمية، والاقتباسات صحيحة في أغلب الأحيان، ولا شك أيضًا أن حياة المرء ستتغير بعد قراءة هذا الكتاب العبقري الذي تصدر القوائم والعناوين في أشهر الصحف والمجلات، هل هذا صحيح؟ ربما.
“كل أسرار العالم موجودة في الكتب، فلتقرأ على مسؤوليتك الخاصة” دانيال هاندلر، نعم بالتأكيد الكتب فيها جزء لا بأس به من الحقيقة، انظر إليّ كيف أكتب مقالًا عن خطورة وعظمة تأثير الاقتباسات، ومع ذلك لا أزال أذكر اقتباسًا أو اثنين، لعلها رغبة عارمة في تأكيد أفكاري عن طريق ربطها بأفكار المشاهير والعقول العظيمة التي زيّنت التاريخ بإنجازاتها. ألست أيضًا تجدها رغبةً لا تقاوم عزيزي القارئ؟ ولعل أبرز ما يميز الاقتباس عن غيره هو الآتي:
فصاحة اللغة، ودقة المعنى
يأتي الاقتباس غالبًا في حلة منمقةٍ من القول، تصيب الهدف دائمًا وتختلج في قاع النفس البشرية، خاصةً في اللحظات التي وافق هذا الاقتباس معنًى، كأن تصاب بشيءٍ من اليأس أو مسٍّ من الحزن؛ لتطل من نافذة الجملة القصيرة التي تخبرك أنّ هذا المشكلة التي أرقتك فترة وستمضي، أو لا تفرح بهذا الإنجاز الصغير واستعد لإنجاز أكبر، المهم أن الاقتباس غالبًا ما يصيب هدفه.
سعة التجارب
من الثابت والبديهي أن الشخصيات المهمة في التاريخ لم تصل إلى مكانتها المرموقة بسهولة ويسر، بل كان طريقًا مليئًا بالصعاب والمشاكل الكفاح، ويذكر التاريخ أن العالم البارز والحائز على نوبل ألبرت أينشتاين كان يواجه صعوبات في التعلم صغيرًا، فربما يصيبك شيء من البصيرة، حينما تقرأ اقتباسه الشهير: “كل إنسان هو عبقري بشكل أو بآخر المشكلة أننا نحكم على الجميع من خلال مقياس واحد.. فمثلاً لو قيمنا سمكة من خلال مهاراتها في تسلق شجرة ستمضي السمكة بقية حياتها معتقدة أنها غبية”.
ولكن المفاجأة أن الاقتباس نفسه ليس لأينشتاين، وإنما أسيء نسيته إليه وذلك حسب صحيفة أميركا اليوم (USA Today)، هل شككت في صحة الاقتباس بعد أن عرفت أنه ليس للعالم البارز؟ بالتأكيد المعنى لا يفترق عن الحقيقة كثيرًا، فلكل إنسان ما يميزه.
المنظور الأوسع
تخيّل معي مجموعة متراصة من الدوائر بعضها خلف بعض، وكلما ابتعدت عن المركز كنت أقرب إلى رؤية الصورة الشاملة للحقائق، كذلك هي تجربة الخبراء في الأمور، فحينما تتعثر في شيء تجد الحل في كلمات ذلك المستثمر العبقري الذي أصبح ملياديرًا فيما بعد، وهذا قد يكون مدعاةً لك أن تتبع ما يقول وتحذو حذوه، وليس في الأمر بأس، ولكن ظروف الأحداث ليست واحدة دائمًا، وهو الأمر الذي فتح الباب بداومة لا تنتهي من الكتب على غرار كيف تصبح غنيًّا في أربعين يومًا؟ بل في أسبوع، عزيزي القارئ أنت بالفعل غنيّ وأنت لا تعلم، والطامة الكبرى هي النصائح السخيفة التي فيها، ولا بد أن تضمن لك النجاح.
العمل الجاد هو الذي يضمن نجاحًا ما، ليس بالضرورة النجاح المضمون، ولكنّ من سار على الدرب وصل، المهم أن تعرف إلى أين تسير.
إلى أيّ مدًى نتأثر بالنص؟
أذكر قراءة مقال للراحل الحي في قلوبنا دائمًا: الدكتور أحمد خالد توفيق، يتحدث فيه عما أسماه رصيد الثقة، ويعلم الله كم من رصيدٍ له لديّ، وكلما ازداد هذه الرصيد زاد اقتناع القارئ بما يقوله القارئ حتى وإن كان خاطئًا، الأمر يذكرني بكتب التنمية البشرية التي تتحدث عن تطوير الذات وتلزمك بالنصيحة الآتية: قف أمام المرآة وقل: أنا عظيم، وأستطيع كذا وكذا وربما حتى ستتمكن من الطيران في يوم من الأيام إذا قلت أنا نسر.
أو كتب السحر التي يسعى لها الكثيرون ظنًّا منهم أنها ستحقق لهم المستحيل؛ فيفعلون بالنص ما يقال حتى لو تطلب الأمر دماء حيوانات بريئة، فالحاجة والرغبة إلى تحقيق شيء عظيم قد تدفع الإنسان إلى اللامعقول. الكتّاب بشر وليسوا بكائناتٍ معصومة.
“كم هو الحب عقيم إنه لا يكف عن تكرار كلمة واحدة “أحبك”، وكم هو خصب لا ينضب هناك ألف طريقة يمكنه أن يقول بها الكلمة نفسها” ― فيكتور هوغو.
اقتباس جميل مليء بالرومانسية أليس كذلك؟ ولكن ما قد لا يعرفه الكثيرون عن الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو هو أنه كان مولعًا بالعاهرات، حتى أنه بين عامي 1848 وعام 1850 كان قد نام مع 200 امرأة، وعند حلوله العام 83 وهو شيخ في أرذل العمر كان ينام مع 8 نساء مختلفات، وفي اليوم الذي مات فيه أغلقت بيوت الدعارة في باريس احترامًا لأشهر زبائنها.
المرء غالبًا ما ينظر بعين الانبهار من جانب واحد؛ وفي الحقيقة الأمر ما هو إلا خلاصة تجارب شخصية؛ قد تتوافق مع إنسان وقد لا تتوافق مع الآخر، وليست القراءة وحدها ما يُبلّغ الإنسان الهدف المنشود.
مثال آخر على الكتّاب الذين خالفوا عقائدهم جورج أورويل، المبشر الأعظم بثقافة الأخ الأكبر، وهو كذلك من باع زملاءه الكتّاب للشرطة السرية البريطانية. فعلي أي أساس إذًا نعتبر أفكار المؤلف مقياسًا مطلقًا؟ لا يمكن بحالٍ من الأحوال الأخذ بما خطت يد المؤلف على أنه “برشام” صالح لكل مكلوم. الأمر الذي يدعو للدهشة هو كيف طاب لهم الجهر بما كتبوا وهم عكس ذلك في الواقع، وهنا أنتقل لاقتباس آخر لأبي الأسود الدؤلي:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
القراءة (أحيانًا) هروب من الواقع. أتذكر تلك الصورة الشهيرة التي تقارن بين فيلم وراية هاري بوتر، وكيف حذف الفيلم الكثير من التفاصيل المهمة والرائعة.
كذلك هي القراءة تحذف جزءًا من تفاصيل الحياة التي لن تعوض، وتنمي مشاعر وهمية تنتهي غالبًا بالرضا الزائف عن النفس، وإهمال الواجبات بحجة أن القراءة وسيلة للتطور والارتقاء، كم من مرةٍ وافاك شعورٌ جيدٌ بعدما قرأت مصير الشخصية السيئة في الرواية؟
بينما على الجهة الأخرى يتخيل الإنسان نفسه مكان بطل الرواية، ويزيد الأمر خطورة إذا انغمس الإنسان في الخيال، والخيال أكثر ضررًا من الواقع في كثيرٍ من الأحيان، وفي الوحدة اطمئنان وسلام نفسي ليس في غيرها من مناحي الحياة.
وتصل الخطورة الكبرى أن تطغى عليك الكتب؛ فلا تكوّن رأيًا مستقلًّا، فتكون مجرد ماكينة للأفكار العظيمة، أو مذياعًا يتباهى بمعرفته، القراءة مهمة ولكن التفكير لا غنى عنه.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 230
link https://ziid.net/?p=89439