الوحدة وتكوينها النفسي لدى الكاتبات
يراود الكاتب أحيانًا جانب خفي من الشعور بالذنب ربما لقلة حيلته حيال ما يحدث حوله من ظلم وقهر وأسي،لا يملك وقتها سوى الورقة والقلم
add تابِعني remove_red_eye 751
قبل أن تستدرجك الكاتبة لتفاصيل الكتاب يطرق العنوان أبواب عقلك فتبدأ في التساؤل: لماذا يتعمق ويتضاعف الشعور بالوحدة لدي الكاتبات؟ لا يعني هذا أن الكاتبات وحدهن مَن يعانين ذاك الشعور ولكن ربما يتضاعف ذاك الشعور بداخلهن أكثر من غيرهن، ربما يرجع هذا لتكوين الكاتب وما يملكه من حساسية شديدة تجاه كل شيء في الحياة. تتضح تلك الحساسية في فهم الأمور والوعي بالحياة بكل تفاصيلها وفي بعض الأحيان تفرض تلك الحالة علي الكاتب نوعًا من الشعور بالوحدة فينزوي قليلًا ويبتعد، يكتب يعبر يتألم ليس لهمومه فحسب ولكن للشأن العام بأكمله.
يراود الكاتب أحيانًا جانب خفي من الشعور بالذنب ربما لقلة حيلته حيال ما يحدث حوله من ظلم وقهر وأسى، لا يملك وقتها سوي الورقة والقلم يكتب ويعبر يتألم، وأحيانًا يتملكه شعور الوحدة فينزوي بعيدًا عن المقربين والأصدقاء وربما تشتد حالة الانزواء تلك فيبتعد ويتغرب حتي عن ذاته إلي أن ينعدم ويتلاشى مفهوم الحياة بالنسبة إليه، وربما أدي ذلك إلي قرار واع بمغادرة الحياة، لربما تكون تلك الخطوة شافية من كافة الأسقام التي عاني منها طويلا.
تتقمص الكاتبة دور الطبيب فتمسك بمشرط الجراح لكي تتمكن من الإمساك بتلابيب ذاك الشعور المقيت المسمى “بالوحدة” الذي لا يقتصر على العزلة وتجنب الآخرين، فمن الممكن أن تصبح محاطًا بالبشر هنا وهناك وتظل تستشعر في أعماقك وحدة مقيتة وكأنك غريب عن كل من حولك وتبدأ رحلة البحث لتكتشف أن ذاك الشعور كان جزءًا من تكوين بعض الكاتبات، فتبدأ التساؤلات:
ما الوحدة؟ ولماذا تشعر بها الكاتبات أكثر من غيرهن؟ هل الوحدة جزء من تكوين الكاتب؟ هل هي متلازمة تدفع المرء للكتابة أم أنها ناتج للكتابة؟ تكتب وتعبر عما بداخلك وتصرخ عبر الأوراق والأقلام ثم تنظر حولك لتكتشف أنه لا أحد هنا.
مراجعة كتاب (الكاتبات والوحدة)
لم تتناول الكاتبة الوحدة كفكرة مجردة بل تقودك عبر بحث نفسي لتشريح شعور الوحدة من خلال رصد بعض الكاتبات اللاتي عانين ذاك الشعور. رحلة من الشجن نحياها عبر بضع صفحات تستطيع إنهائها في جلسة قراءة واحدة ولكن يظل الأثر النفسي ملاحقًا لك لما يحمله من شجون والآلام. تبدأ رحلة الشجن بالحديث عن الكاتبة “عنايات الزيات” ومحاولة تفقد أثرها والنهاية المأساوية وتتبع آثار اليأس الذي دفعها لإنهاء حياتها معلنة احتجاجها على العالم بالانتحار.
ويبدو أن شعور الوحدة كان جزءًا من تكوين عنايات الزيات، لجأت إليها بعد ما تلقت صفعات كثيرة ما بين: روايتها التي لم يكتب لها الظهور وانشغال صديقاتها وعائلتها التي تبدو في عالم آخر وقصة الحب التي غادرتها بملء إرادتها بسبب أمومتها، وحتي أمومتها التي كان يشوبها الكثير من الفقد فلجأت للوحدة وصادقتها، انغمست فيها ثم اتخذت القرار بمغادرة الحياة. ثم يتسع الجرح الغائر شيئًا فشيئًا لنتعرف على ضحية جديدة من ضحايا الوحدة والقهر “فاليري سولاناس” التي تشبثت بالكتابة حتى آخر لحظة في حياتها إلى أن وجدوها منكفئة على الآلة الكاتبة فقد غادرت الحياة وهي تكتب كانت تمارس الفعل الوحيد الذي أحبته.
ينكسر الحديث عن الوحدة قليلًا ويمتلئ بمزيد من العذوبة حينما يتم الحديث عن الرقيقة “مي زيادة” حيث تسرد لنا الكاتبة بعضًا من تفاصيل حياتها المليئة بالنجاح إلي الحد الذي جعلها مقصد أدباء مصر ورموزها حيث اللقاء الأسبوعي في صالون مي زيادة كل ثلاثاء، فيجلسون حولها يستمعون إليها ويغرمون بها، إلى أن خيم شعور الوحدة علي حياة مي وتوالى فقد الأحبة الذي بدأ بأبيها ثم حبيبها (جبران خليل جبران) ثم أمها فتبدأ رحلة الاكتئاب وتنطفأ الهالة التي أحاطتها رويدًا رويدًا لتحدث الصدمة الكبرى وتقوم عائلتها بالاستيلاء على أملاكها وإيداعها في مستشفى الأمراض العقلية، لتغادر مي الحياة وهي وسط الكتب التي ظلت بجوارها حتى النهاية.
ثم نحيا مفهومًا آخر للعزلة وهو “العزلة الاختيارية” من خلال رحلة الطبيبة والكاتبة/نوال السعداوي: التي اختارت بملء إرادتها الانعزال الذي كان في الغالب هو ضريبة التمرد على القيود الاجتماعية -الظلم-الألم- القهر، فتنعزل رويدًا رويدًا فتصير وقتها الكتابة هي الملاذ الوحيد فتبتعد عن صخب الحياة وتصادق الأوراق والأقلام وتفرغ ما بداخلها على الورق فيصير هو البراح والمتسع.
أن تقف على ناصية الحلم تقاتل وتناضل، يمسك الحلم الوردي فتحلم وتحلم ثم تستفيق لتجد أن هذا محض هراء فتفقد معنى الحياة وتحيا بلا هدف، ينقلب الحلم الوردي إلي كابوس فتفقد معنى الحياة وتتخذ القرار وتغادر الحياة. تلك باختصار قصة “الكاتبة أروى صالح” فكونها شخصية حالمة تمتلك الكثير من رهافة الحس والمسئولية تجاه وطن بأكمله، أبت البقاء والاستمرارية بعد انكشاف زيف المحيطين وشعورها بالغدر، صادقت العزلة والصمت وتمكن منها الاكتئاب لتصير ضحية أخرى للوحدة والخذلان.
وتختتم الكاتبة هذا العمل بالحديث عن “فرجينيا وولف” التي ألهمت العديد من المبدعين بكتب وروايات وأفلام ودراسات ولكنها في المقابل، عاشت حياة مضطربة كان فقد الأحبة جزءًا أصيلًا من رحلة حياتها لتستيقظ ذات مرة مرتدية معطفها متوجهة إلى “نهر أوس” وقد ملأت جيوبها بالحجارة لتتخفف من الأحمال وتغمرها المياه لتفارق الحياة بعد رحلة تخللتها الكثير من الصعاب.
ربما انتهيت من قراءة العمل الأدبي البديع هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه، لكنه لم ينته من داخلي صار جزءًا من تكويني يعبر عن جزء مني يحمل قدرًا من التشابه بيني وبين بعض الشخصيات المشار إليها.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 751
مراجعة لكتاب "الكاتبات والوحدة" للكاتبة نورا ناجي
link https://ziid.net/?p=75609