رضوى عاشور، أن لا تموت بعد الموت
كانت رضوى عاشور دائمًا صاحبة قضية، صاحبة رأي، لا تخشى من أحد إنما تكتب، تكتب لتخلد القضايا لتخلد اسمها في وجداننا
add تابِعني remove_red_eye 61,969
يوم رائع هو ذلك اليوم الذي أتى فيه أخي بكتبٍ جديدة، فالقرية تبعد عن المكتبات بالكثير من الكيلومترات، لذلك فإن الحصول على كتاب جديد بمثابة هدية من السماء، حوت الغنيمة ثلاثة كتبٍ كبيرة الحجم، الأول مجلد من رواية ألف ليلة وليلة، الثاني رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”، الثالث ” ثلاثية غرناطة” للأديبة الكبيرة الراحلة رضوى عاشور، كان ذلك هو لقائي الأول بها وبقلمها الساحر، كانت المعرفة التي جعلتني أتمنى لو ألتقيها، لو أنال شرف توقيعها على نسخة من روايتها ولكن القدر لم يمهلني، فبينما أنا أخطو أولى خطواتي نحو الحياة، نحو الكتابة، نحو الانطلاق وهي نقطة دخولي الجامعة، فإذا بيد الموت تخطفها من دنيانا، لتصعد روحها نحو السماء في يوم (30) نوفمبر من العام (2014م).
أثقل من رضوى
قال عنها مريد البرغوثي زوجها “ابتسامتها رأى، وموضع خطوتها رأى، وعناد قلبها رأى، وعزلتها عن ثقافة السوق رأى. رضوى جمال رأيها ورأيها جمالها” لم تكن رضوى عاشور كاتبة عادية، لقد كانت كاتبة ومؤرخة في آن واحد وحتى إن لم تصنف نفسها ضمن المؤرخين، لكنني لم أعرف عن غرناطة وما حدث هناك إلا حينما قرأت الرواية، لقد كنت ملتصقةً بها، أخذتني سطورها ولم أتركها إلا حينما نمت، لقد كانت سليمة المدهشة سليمة العالمة، التي أحرقت مع كتبها، ولقد كانت مريمة، غير المتعلمة، مريمة الرائعة، التي لا يسعها قبر ووحشة، فصار قبرها آنس بلا وحشة.
أثقل من رضوى هو عنوان أحد كتبها، بل هو مقاطع من سيرتها الذاتية، ولأن اسمها رضوى على اسم ذلك الجبل القريب من المدينة المنورة، تقول عن تسميتها “فلما جاءت البنت بعد سنتين وتسعة أشهر، اختار لها اسم جبل آخر، لا يقع في الطرف الغربي من المتوسط مشرفًا على المضيق الذي يربط المغرب الأقصى بشبه الجزيرة الآيبيرية، بل يقع بالقرب من المدينة المنورة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول:
(أثقل من رضوى) ولأن لكلٍّ من اسمه نصيب جاء نصيب الأستاذة من الجبل البديع بل في الواقع سلسلة الجبال، والتي ليست جبالًا فحسب بل تحتوى على الينابيع وجداول الماء والشعاب والغزلان والنسور وغيرها مثلما ذكرت، فقد ظلت الأستاذة راسخة في الوجدان، وستظل راسخة، فالأمر لا يقتصر على كونها كاتبة فحسب، تختار من حكايات التاريخ، فمن ثلاثية غرناطة إلى الطنطورية، التي تتحدث عن فلسطين، لقد كانت كاتبة وكانت كذلك ثائرة منذ أن كانت في الجامعة، وحتى الثورة المصرية في العهد الحديث، لقد كانت رضوى عاشور دائمًا صاحبة قضية، صاحبة رأي، لا تخشى من أحد إنما تكتب، تكتب لتخلد القضايا لتخلد اسمها في وجداننا وهذا ما حدث بالفعل.
الطنطورية، حينما عرفتني فلسطين أكثر من نشرات الأخبار
“تعلمك الحرب أشياء كثيرة، أولها أن ترهف السمع و تنتبه لتقدر الجهة التي يأتي منها إطلاق النيران، كأنما صار جسمك أذنًا كبيرة فيها بوصلة تحدد الجهة المعينة بين الجهات الأربع، أو الخمس، لأن السماء غدت جهة يأتيك منها أيضا الهلاك” اقتباس من رواية الطنطورية.
في طريقي للجامعة كنت أمر بالرجل الذي يبيع الكتب في ذلك الشارع المليء بالمحال التجارية، كانت الكتب تطل باستحياء على الشارع الصاخب، وكعادتي أتخيل شخوصها تطل من الأغلفة، أو تتسرب بالليل من بين الصفحات وتخرج لترى الشارع، لتعرف ما فاتها في الزمن الذي تم حصرها فيه، يومها وبينما أتوقف أمام الكتب أدقق في العنوانين، رأيتها لقد كانت تحدق في مباشرةً، واسم الأستاذة يزين الغلاف.
أخذت الكتاب بسرعة، فوجدت سيرتها الذاتية تختبئ هناك، وحينها اشتريت الكتابين، لكن الطنطورية بعنوانها الغريب شدني لأقرأ ويومها، بكيت، لم تكن تلك فلسطين كما أراها في نشرات الأخبار، لقد كانت أعمق لم تكن فلسطين الحطام والمقاومة، والحرب والحجارة، لقد كانت فلسطين العادية البادئة بالخالات والعمات يغنين وهن منهمكات في إعداد الطعام والشباب الذين يدبكون، لقد رأيت البحر، وشممت رائحة القهوة، وكنت أتوق لرؤية المفاتيح المعلقة في رقاب النساء، النساء اللائي قررن أنهن سيعدن يومًا إلى بيوتهن.
إنني حينما بدأت معرفة فلسطين من تلك الناحية تعلقت بها، وحينما تعلقت بها، كنت أود أن يتوقف التاريخ عند ذلك التاريخ وأن لا يأتي العدوان، منذ طفولتي، منذ فتحت عيناي وأنا أسمع عن القضية الفلسطينية، في نشرات الأخبار، في أحاديث أبي، في الكتب المدرسية، في القصص، في حواديت المعلم الذي كان يخصص خمس دقائق من حصته من أجل أن يعرفنا بالقضية، من أجل أن تتعلق قلوبنا بها، من أجل أن يقول الأولاد نريد أن نحرر الأقصى، وتقول البنات إن أبناءنا سيولدون ليحرروها، لكن مع رضوى عاشور انتهى كل ذلك، لقد كان عهدي بفلسطين عهدًا جديدًا، لقد بقيت أبكي أسبوعًا كلما تذكرت الرواية.
لكل المقهورين أجنحة
إن أفضل هدية قد يتلقاها قارئ يحب كاتبًا، أن تفاجئه الأقدار برواية أو كتاب من كاتبه الراحل، وهذا هو ما حدث في عام (2019م) حيث صدر كتاب “لكل المقهورين أجنحة، الأستاذة تتكلم” للراحلة رضوى عاشور وهو عبارة عن المقالات التي كتبتها في مراحل متفرقة من عمرها، وعلى الرغم من السعادة بمداد حروفها الجديد المقدم إلينا، وخاصة من أنهى كل أعمالها، على قدر الغصة التي شعر بها كل من كان ينتظر توقيعها أو مناقشتها للكتاب، لكن هذا بالضبط هو ما أقول عنه ألا تموت بعد الموت، ليس بنشر كلماتك فحسب، بل ببقائها محفورة في وجدان من يقرأ، كل من يحب القراءة، وحينما نريد أن نضع مثالًا على بقاء الكلمات في الوجدان لن نجد أفضل من الأستاذة رحمها الله. “لا وحشة في قبر مريمة”
إليك أيضًا:
add تابِعني remove_red_eye 61,969
كانت المرأة الأولى التي قرأت لها روايات بعيدة عن الحب والحياة الاجتماعية والثرثرة. رضوى عاشور
link https://ziid.net/?p=72606