تعرّف على الكاتب الذي أنجز معظم أعماله في الحجر الصحي

كان في مشوار إلى قرية يولدينو شرق موسكو لقضاء ثلاثة أسابيع فقط ولكن الفترة امتدت بسبب انتشار وباء الكوليرا الذي تسلل إلى روسيا عام1830 فاضطر للبقاء في القرية لمدة ثلاثة شهور للحجر الصحي خوفا من الإصابة بالوباء، بدون كتب ولا إنترنت ولا تلفاز ولا أي وسيلة للتسلية والتواصل وتمضية الوقت سوى الإبداع الأدبي والكتابة، فقد كتب في عزبة القرية أكثر من ثلاثين قصيدة وأنهى روايته الشعرية يفغيني أوينغين وألف سلسلة تراجيديات وقصصا ومقالات نقدية وكتب رواية المأساة الصغيرة ووليمة في زمن الطاعون وقد قيّم كبار الأدباء والنقاد فترة الحجر هذه في تاريخه بأنها الأغزر إنتاجا في حياته.. إنه أمير الشعراء الروسي وشاعر الحقبة الرومانسية ومؤسس الأدب الروسي الحديث ألكسندر بوشكين.

ولد بوشكين في يونيو 1799 في موسكو نسب إلى عائلة روسية نبيلة وقد تعلم الفرنسية وكتب بها وكانت لغة الأداب والفنون ، يعود اهتمامه بالتراث العربي والاسلامي إلى أن جده قد خطفه الأتراك وهو طفل من الحبشة وباعوه في إسطنبول ثم أهداه السفير الروسي في الأستانة إلى قيصر روسيا  الذي اهتم به واستطاع جده ابراهيم ان يصل بذكاءه إلى مكانة كبيرة وكان مسلما يقرأ القرآن سرا مما أثار شغف بوشكين، وقد تأثر في قصصه الخيالية بقصص ألف ليلة وليلة وكذلك في كتابته للشعر تأثر كثيرا بالنص القرآني فقد كتب قصيدة تحمل اسم محاكاة العربي، وقبسات من القرآن وقصيدة محاكاة القرآن التي كتبها تأثرا بسيرة النبي محمد، وقد حاول مقاربة ايقاع الآيات القرآنية كشاعر لا كمترجم بحيث يبرز روح الشعر واللغة الروسية وكتب قصيدة متأثرا فيها بسورة النور، تقول:

لقد أضاءت الشمس في الأكوان

والأرض أضاءت والسماء

مثل نبتة كتان

مفعمة بالزيت

صلّ للخالق فهو القدير

يحكم الريح في يوم قائظ

ويرسل السحاب إلى السماء

ويهب الأرض الأشجار

إنه الرحيم

قد كشف لمحمد القرآن الساطع

فليكن لنا أن ننساب نحن أيضا نحو النور

ولتسقط الغشاوة عن العيون.

وقد قال عن القرآن: إنه الكتاب الديني الوحيد الذي أذهل مخيلتي. في أشعاره كتب أيضا عن الثورة والحرية ضد ظلم حكم القيصر رغم أنه من عائلة ارستقراطية.

كانت روايته “يافغيني أوينغين” معقدة للغاية لدرجة أن مترجمها للانجليزية ترجمها في مجلدين حتى يستطيع إيصال معناها رغم أنها ليست سوى مائة صفحة وهذه الصعوبة في ترجمة أعماله إلى الانجليزية جعلت معظم أعماله غير معروفة ورغم ذلك فقد ألهم الكثيرين من الكتاب والموسيقيين في العالم حتى في عالمنا العربي فقد تحدث نجيب سرور أنه كتب مسرحيته الشعرية ياسين وبهية بإلهام من عمل بوشكين الشعري يافغيني أوينغين بعد أن قرأها وقد أبدع سرور في هذا العمل الذي احتار النقاد في توصيفه كمسرحية شعرية أو قصيدة طويلة او لوحات قصصية وكان هذا بإلهام من بوشكين،

المرأة والحب في أعماله

تظهر المرأة في أعمال بوشكين بصورة مثالية محترمة وفية تعصف بها أوضاع المجتمع وظروفه والمراحل التاريخية وتقع ضحية لطبائع الرجال إلا أنها تظل عاشقة عفيفة.

كتب الكثير من القصص محورها الحب مثل أسير القوقاز وارسلان ويفغيني أوينغين ويقول توليستوي عن الجمال في أشعاره بأنه نامٍ إلى درجة يصعب على أي شاعر مجاراته، كما قال أحد النقاد أن الجمال الشعري ينبع من جماله الداخلي لأنها ليست مجرد مشاعر إنسان بل مشاعر فنان.

وفي الحياة قد أحب فتاة جميلة واستطاع أن يحقق أمنيته ويتزوجها وعاش معها حياة سعيدة فقد كتب إلى صديقه يقول: “أنا متزوج وسعيد لدي رغبة واحدة وهي ألا يتغير شيء في حياتي فأنا لا أنتظر ما هو أفضل أشعر وكأنما ولدت من جديد”

نهاية درامية تحاكي المشاهد التي يكتبها

عاش بوشكين قصة حب تشبه رواياته وقصصه الرومانسية فقد كانت زوجته ارستقراطية جميلة أعجب بها الكثيرون من النبلاء وحتى القيصر نفسه وقد أنجبت منه أربعة أبناء ولكن لم تستمر السعادة والحياة الهادئة فقد كانت أشعاره الوطنية الثورية ضد الظلم والاستبداد تتردد على الألسنة مما أثار حفيظة الكثيرين فدبرت له مؤامرة ليفسدوا عليه حياته الزوجية بتشويه سمعة زوجته بإشاعة خبر عن علاقتها بابن البارون وقد كان بوشكين يثق في زوجته إلى أقصى حد إلا أن هذه الأحاديث كانت تعكر صفو حياتهم، حتى اضطر بوشكن إلى دعوة البارون إلى المبارزة بالمسدسات إلا أن ظروفها جاءت غير عادلة، في ساحة يوضع فيها الآن تمثال له وقف للدفاع عن سمعة وشرف زوجته إلا أن خصمه استبق بخطوتين وأطلق النار فأصيب بوشكين بإصابة خطيرة مات على إثرها بعد ثلاثة أيام لتكون نهايته المأساوية محاكاة لمشهد من المشاهد التي كتبها  في قصصه.

وقد كتب كذلك نبوءة في بداية معرفته بزوجته حيث قال:

يشهد الله أنني على استعداد أن أموت لأجلها لتكون أرملة رائعة حرة في أن تختار زوجا لها ولو في اليوم التالي لموتي.