ثمرة من قصة “العشب فوق الصاعقة”
صرخة دامعة مشفقة يصف بها المؤلف الداء والدواء: "مجتمع يحتاج الى معالجة أخطر شيء في صميم حياته وهو الفراغ العاطفي"
add تابِعني remove_red_eye 1,263
العشب فوق الصاعقة، قصة للأديب الراحل عبد الله عبد الرحمن الجفري، نشرت عام 1425هـ. فيها ما حرك الوجدان في الأمم والأمصار سائر الأزمان، ويحركه اليوم وغدًا، بشرٌ نزعوا جلودهم لتتلوى سيرتهم زاحفة تقذف بمواقف سامة، لم يملك الكاتب إلا أن يعبر عنها في قالب تشكل مما بلغ منها في نفسه، ليضع شمعة وعطرًا ولبنة في الحياة، ليحرر بصيرة ويشق نافذة ويفتح بابًا في النفس الإنسانية، شأن كل كاتب وقاص وشاعر منذ فجر التاريخ، مناديًا إخوته البشر ألا يغفلوا فيحيدوا عن طريق السعادة.
قصة وصفها الكاتب في مقدمته بأنها “دعوة للوعي والحب”، عن بعض ما يصنعه الجهل والفراغ والهوى حين يغيب الوعي والحياء والنُّهى، يفتت جوهرة الإنسانية ومحور الحياة وقوام الأمة وهو الأسرة، فيورث خرابًا متعديًا منتشرًا، كالقنبلة الواحدة التي يصيب ضررها آحادًا وبيوتًا.
البدايات
أنثى كانت لها أكثر من بداية في حيز صغير هو أول حياتها، “خيل إليها أن عمرها الغض الناهد نحو العشرين” صار في يد “تلميذ مضطرب”، لسان حالها يشكو مجتمعًا “أحكم جيله السابق كل الأبواب والنوافذ” عليها وعلى أمثالها “بدون بدائل ولا ثقة”، ترسل إنكارًا واعتراضًا على الحياة، يقبله بعض الناس ويرفضه بعضهم، تحفظه في مذكراتها اليومية التي بدأتها أول دخولها الجامعة، إنكارًا واعتراضًا قد يُقبل من عاجزة غُلبت على أمرها، لا ترسله كي تستحث إنكارًا مثله واعتراضًا، وإنما لتسترحم الأفئدة وتحرك الإرادات وتوقظ العقول. تقول إنها عرفت “من يوصله الغرور إلى الفشل، ومن يرتفع به التواضع وغنى النفس إلى الاكتفاء والرؤية الأحسن”.
وتقول عن الحياة “إن العمليات الجراحية التي يجريها هذا الطبيب/الحياة، مستمرة.. دون أن يقدر الإنسان على الاعتراض”، حديث حقيقته عمن في الحياة، عن البشر، إلا أن التعميم فيه بلاغة لا تخفى على المتأمل. ثم ترى في الحياة غرفة عمليات عليها عبارة “ممنوع الدخول إلا لصاحب الدور”، وترى غرفة ثانية للإنعاش عليها عبارة “الدخول ممنوع إلا لمن سيستأنف دوره في الحياة”، لكنها مع ذلك تريد أن تعلن عن “قدوم الحياة من جديد” بعد اليأس، ولا تعرف متى، “لا تريد أن تخسر الأمل برغم الآلام”، “الروح تجادلها، تؤكد لها أن الحياة الحقيقية هي التي تجتاز الماضي”.
القصة
“ليال”، فتاة اسمها يرمز إلى محيطها، حُرمت الأبوة من قبل أن تعرف الحياة. منذ ولدت وحتى سن العشرين، لم يرها أبوها غير مرة واحدة حين حملتها أمها إلى المحكمة لتأخذ ورقة الطلاق. ويصوب وجدان الكاتب صيحته إلى المجتمع بلسان الفتاة، التي شبت لا تعرف الأبوة، هل يُعقل أن تحدث هذه الأحوال السقيمة “في مجتمع مترابط يحافظ على القيم وتماسك الأسرة وجذور العواطف”، سؤال يعاتب ويسخر ويحقر بألم.
وهي في الخامسة تزوجت أمها برجل وعدها أن تكون “ليال” معهما فيكون أبًا لها. ولم يلبث أن نكث بوعده وأساء إلى “ليال” وإلى أمها، اعتاد أن يسكر ويفقد صوابه ويعنف الأم المعذبة ببعد ابنتها البكر عنها فلا تراها إلا أياما قليلة، ولا تتصل بها إلا خلسة، بقيت “ليال” قانعة مع جدتها لأمها، يرعاهما خالها الذي أعرض عن الزواج ليقوم بشؤون أمه وابنة أخته.
في آخر زيارة لأمها، دخل زوج أمها مخمورًا وجعل يسب أمها ويصيح بها ويهددها. بعض الناس يضعف بالمآسي، وبعضهم يقوى بها، و”ليال” بدأت تستشعر القوة، فوثبت على الرجل تثأر لأمها، وضربته حتى أسقطته وأخذت أمها إلى بيت جارها. بعد يوم، عاد الجار من جلسة مع زوج الأم يقول “لم ألتق في حياتي برجل شرس مثل هذا” ثم أبلغهم أنه طلق أم “ليال”، وفي يومه التالي عاد فراجعها متعذرًا بأنه كان ثملًا فاقد العقل، رضيت الأم بالرجوع، و”ليال” تنكر عليها وتحثها ألا تفعل، لكن الأم ضعفت من أجل أبنائها، ورفض زوج أمها أن تبقى “ليال” وهدد بأخذ الأبناء وترك الأم. يقول الكاتب على لسان نفس “ليال” إنها “تراكمت أصداء السؤال الدائم عليها: إلى أين الإبحار؟” تبحث بإرادة وطموح في خيارات الحياة.
واشتدت المعاناة والإرادة والحيرة والبحث، وانطرحت يومًا في حجر جدتها تبكي من “ذلك المجهول الغامض، الذي يُدعى (أبوها)” أشارت عليها جدتها العجوز أن تكتب إليه، فكتبت الفتاة بكيانها قبل قلمها، وبحبر مهجتها السائل على جوارحها “يا أبي، لا أريد فلوسك، إنني أريد -فقط- أبوتك، وحنانك، ووجهك، وصوتك، وحضنك”، وفي موضع آخر: “إنني أتعذب من إهمالك لي”، “حاولت أن توقظ في صدره غريزة الأبوة المتجمدة نحوها”.
بعد أيام، اتصل بها أبوها ففرحت أيما فرح. صرخت “أبي، حبيبي يا بابا، أريد أن أراك” لكن فرحتها انطفأت بنبرته الجامدة، أفهمها أنه “مشغول جدًّا، والتزاماته كثيرة”، عادت إلى جدتها تحكي لها “أحسّت أنه يؤدي واجبًا، وأنه يريد أن ينهي المحادثة”. ويكمل الكاتب بلسان حال الفتاة إن أباها “لم يسألها كيف تعيش، لم يحاول أن يشجعها لكي تطلب منه أي شيء”.
قررت بإرادة تزداد اشتعالًا أن تفرض نفسها على أبيها وتسافر لرؤيته فاتصلت به “سآتي إليك أردت أو لم ترد” وردّ أنه سيستقبلها. وافقها خالها الذي كان صديقًا وأبًا لها، وسافر معها، وفوق مآسيها الماضية، فوجئت إذ لم تجد أباها في استقبالها، صاحت تسأل “كيف لا يكون متلهفا عليها ولا يأتي؟” ردّ خالها “والدك رجل أعمال كبير ومشاغله كثيرة”، قالت: “أليس عنده سائق يقلنا؟ أو ابنه الأكبر، أخي”.
ثم وصلت دار أبيها وبعد ما أخبرها خالها أن الواقف هو أبوها، وقفت أمامه لحظات محتارة أيّ فعل أو قول ينبغي أن يصدر منها أو منه، وقفت تنفض دهشتها وربما تكبت انفجارها أو تمنع رجوعها. يقول الكاتب “رأته يقف مثل سد منيع، يرسم على شفتيه ابتسامة المجاملة، والمداهنة، والزيف”، “تقدمت نحوه لتحتضنه فأبعدها عنه برفق”. ويكمل الكاتب: “لو أنها قصّت هذا الموقف على مسامع أي إنسان فلا بد ألا يصدقها”.
ولما دخلت تعرفت على النعمة التي ترغد حياة والده الذي لم يفكر فيبعث لها يوما بهدية، حتى لباس الخادمة عنده أثمن من لباسها، وقابلتها زوجة أبيها عابسة متكبرة واجتهدت في إبعادها عن إخوتها، تمسكت “ليال” بخالها عند خروجه “هل تتركني في هذا الجو البغيض؟” فهوّن عليها لتبقى رجاء تغير الأحوال لأفضل مع الأيام.
وتتالت الصدمات فوق ما مضى، أيام مكوثها في بيت أبيها رأته يشرب “شرابًا أصفر في كأس نصفه ثلج” ثم عرفت ما يشربه حين رأته أيامًا يترنح مخمورًا، حتى كانت زوجته تصيح به “كف عن هذا البلاء، فضحتنا”، وكان يلين مع “ليال” في سكره بل يداعبها كأنها زوجة له فتفزع وتبكي، وحينما يصحو من سكره كأنه لا يعرفها، وتذكرت ما قالت لها أمها عن أبيها يومًا “أبوك رجل طيب في داخله”، وانقبض قلبها حرقة وشفقة على أمها التي ذابت مهجتها وثلمت مشاعرها حتى خانها التعبير لتصف ذلك الرجل بخلاف واقع حاله، سألت بلا مجيب “كيف يتصرف الإنسان الطيب بهذه القسوة”.
وانفردت “ليال” في غرفتها مع كراسة مذكراتها. ومما سكبته “أخيرًا، التقيت بهذا الرجل الذي…هو تاريخي الذي انطلقت منه، كل أسف”، وفي صفحة أخرى تابعت شعورها المر الفوار عن أبيها “مخلوق متبلد الحس حتى مع أهله وأولاده” وعاودها الندم على مجيئها إليه.
أمر واحد فازت به هو “دلال”، أختها من أبيها إذ تعلقت بها وأكثرت من مجالستها لها، ومرة بكتْ “دلال” في حضن أختها “ليال” بحرقة تقول “أخاف على أبي من الموت. إنه يشرب كثيرًا ويسافر كثيرًا” ومنعت زوجة أبي “ليال” أخواها منها، لكن “دلال” رفضت مصرة على حبها وقربها من “ليال”.
يكمل المؤلف روايته بصراحة ملتهبة، عن بطلة قصته قائلًا “المواقف الغريبة، أكدت لها أن هذا الرجل المسمى (أبوها) غير كفء، لحمل شرف الأبوة” وما اكتفى أبوها بحماقاته، ففي آخر ليلة قبل سفرها عنه، هددها أنها ملك له صائحًا “أستطيع بالشرع أن أضمك إلى عائلتي، وأحبسك هنا في هذا البيت، فأنت ابنتي، وأنا مسؤول عنك” فردت عليه من فورها “قبل ذلك، لا بد أن تشعرني بحبك، وأن تمنحني الأمان، وإلا أضعتني للأبد”. ونصرتها أختها “دلال” وصاحت فيهم أن يتركوا أختها لحياتها. “ليال” نسيها أبوها سنين لا يعرفها ولا يعرف عنها شيئًا البتة، فلما ظهرت أمامه صار حاله كطفل جاهل عابث رمى لعبته ونسيها، ثم لما رآها يومًا عاد لينكل بها.
رجعت ليال إلى جدتها، وإلى خالها المحبّ الذي يفيض عليها حبًّا وحنانًا ودعمًا بقوله “تريدين لبن العصفور. حاضر”.
نهاية إلى بداية
ولعل “ليال” أخذت تجتهد في الانصراف عن مآسيها، طلبت البعد عن ماضيها لتلقي ثقله عن ظهرها، دفعتها تراكمات الملل والفراغ العاطفي أن تستجيب لشاب أعطاها رقمه ثم ظلَّا يتحادثان بالهاتف أيامًا، وهي في خوف وتردد وإحجام، لكنها تحنّ إلى ملء ذلك الفراغ العاطفي، أطلقت خواطرها بمرارة “كم مرة التفت المجتمع إليك وحاول أن يهتم بك”. “لماذا هذا المجتمع لا يتحدث عن المرأة إلا عن الحرام والخطأ والعيب ولا يناقش معها حقوقها وتطلعاتها”، حتى أضنتها أفكارها المشوشة وأسئلتها الحادة.
وانتهت المكالمات بخطبة الشاب لها، أحبته وأحبها، ثم تزوجته لتبدأ معه عيشة بعيدة عما انتهى وغاب، تعود وتتساءل عن اقترانها محتارة “إن النظرة إلى أشياء العمر ومتغيرات الحياة ربما كانت مصلوبة على الأنانية مرصودة بفقدان الطمأنينة”، ومر أول شهر على زواجهما لتتأكد من شكوكها من أحوال زوجها الشاب الثري، وجدته يدمن المخدرات وينصرف في لهوه عما يقيم بيته وحياته، أغراه انشغال والديه عنه، وفتنته أموال أبيه في يديه بلا حساب، فانجرف مع رهط فاسد من أصدقائه، وتهور مرة بسيارته وصدم صبيًّا أودعه العناية المركزة، لينقذه أبوه من المؤاخذة بأمواله، قالت “ليال” فيما كتبته عن تأملاتها “السعادة هي ألا يكون لدينا فراغ من الوقت لنفكر” لعلها وجدت التفكير مصدر تعب لها لا طائل من ورائه.
ولا يكون الاقتران مع مثل زوجها الفاسد أي مستقبل. حاولت الصبر معه ومساعدته، لأنها أحبته وأحبها، واشتاقت له واشتاق لها، لولا أنه مضى في ضياعه، بل أخذ في تعنيفها وتهديدها، منقادًا بأبيها وبأبيه معًا، بل ومتشفعًا بهما، عالمًا بأنهما معه ضد الفتاة، قالت له باكية “تهددني، بدلًا من أن تعدني بالإقلاع عن التعاطي”. انتهى أمر الرجل مريضًا في مستشفى علاج الإدمان، ثم ما لبث بعدها أن انتهى مجرمًا في السجن، رجعت إلى بيت خالها وقد رحلت عنه جدتها الحبيبة التي ماتت وقت كانت “ليال” مع زوجها.
ويختم الكاتب قصة حياة “ليال” مع أولئك الرجال بكلمات بليغة عن الفقد “كارثة أن نشهد موت من أحببناهم وهم أحياء أمامنا، لكنهم ماتوا روحًا وإحساسًا وعقلًا وقِيَمًا”، لكنها بعد هذه الحصيلة من أزمات الحياة وهي في شبابها، عادت إلى غرفتها الأولى بعزم وحزم وبإرادة صلبة “تحتاج إلى مساحة بيضاء ناصعة، إلى نقطة كانبلاج الفجر، حتى تبدأ حياتها الجديدة”، ختام بأمل وتفاؤل، ختام جميل بتطلع إلى بداية جديدة.
قصة فيها عبر لكل قلب حي، تشد قارئها بأحداث فيها صدق أحاسيس وعبارات أمينة في صراحتها وحرة في تصاويرها.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 1,263
ملخص رواية "العشب فوق الصاعقة"
link https://ziid.net/?p=80635