المجرمون ليسوا إلا أطفالًا كبارًا
أفعال السجناء دائمًا غريبة ومتناقضة وهجينة، لا تفهم. كأنها خلقت لذلك، لكن دستويفسكي تمكن في رواية سجين مجرم أن يفسر هذه الأفعال
add تابِعني remove_red_eye 2,365
جعل دستويفسكي روايته مذكرات من البيت الميت، عبارة عن مذكرات سجين –ألكسندر بيتروفيتش– من طبقة النبلاء، قضى عقدًا من الزمن في سجن الأشغال الشاقة، ليستطيع تفسير أفعال السجناء؛ فالسجناء من عامة الشعب وهو من طبقة راقية، فأفعالهم جديدة عليه، وهم مجرمون وهو مجرد مذنب، فأثارت أفعالهم استغرابه، وأثّرت عليه بالسوء، فحاول أن يبحث عن معان لهذه الأشياء المتعبة عويصة الفهم.
المجرم ليس مذنبًا
يقول بيتروفيتش: لم ألاحظ طوال سنوات سجني أدنى علامة ندم على سجين، ولا أي قلق من الجريمة التي ارتكبها، وإن معظم السجناء كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أن من حقهم أن يتصرفوا كما يروق لهم. فيعلل ذلك قائلا: إن المجرم الذي تمرد على المجتمع، يكرهه ويعتبر نفسه دائمًا على حق: المجتمع في نظره مخطئ أما هو فلا.
أفعالك لن تدهش أحدا
المجرم خارج السجن، مخيف، مهيب، بكلمة واحدة: مدهش. وهذا الاندهاش –لأنه يرى أن فعله صحيح– يزيده رغبة في الجريمة ليدهش أكثر. كما لو كنت عالمًا فيزيدك احتفاء الناس بك رغبة في إظهار علمك لهم. فالجريمة عمل يعبر عن ذات المجرم. ولكن ماذا عندما يدخل المجرم إلى السجن فيجد الجميع مجرمين؟ أليس لن يُدهش أحدًا فتفقد الجريمة معناها بالنسبة له؟ يقول بيتروفيتش: سرعان ما يلاحظ المجرم أنه لن يدهش أحدًا بأفعاله هنا، فيرضخ لحالة الوقار والصمت الذي يتخذها السجناء.
البحث عن معنى
السجين بعد أن يفقد كل الاندهاش الذي كان يعطيه له الناس خارجا، يحس بأنه لا وجود له. فيقول بيتروفيتش: لو لم يكن للسجين عمل شخصي يقبل عليه طواعية واختيارًا بكل ما لديه من ذكاء، لاستحال عليه احتمال حياة الاعتقال. لذا يأخذ السجناء في تعلم صنعات مختلفة، والتجارة بالحاجات والخمر. لذا يعلل كره السجناء للأشغال الشاقة التي يفرضها عليهم السجن، لأنها لا تنطوي على فائدة للسجناء أو معنى. ولكن يوجد بها فائدة قليلة تعزيهم، فهو مثلا يصنع طوب بناء، يحفر الأرض، وهذه الأعمال تكون لهدف.
كيف يختار السجين عمله؟
سنأخذ تجارة الخمر كمثال. يقول بيتروفيتش: هذا أحد السجناء لا يجيد أية حرفة، ولا يريد أن يعمل، إلا أنه يود ان يغتني سريعًا، فإذا به يقرر، متى حصل على مال، أن يشتغل بتجارة الخمرة شراء وبيعًا. وهؤلاء السجناء يملكون الجسارة والمهارة، ورأسمالهم الوحيد هو ظهورهم، فيقترحون على الخمارين إدخال الخمرة إلى السجن. فيربحون المال بالتهريب ويتاجرون بالخمر.
وسنأخذ سجينًا يسمى غازين كمثال. يصفه بيتروفيتش: كان يثير الرعب بهامته الضخمة المشوّهة أكثر مما يثيره بقامته الطويلة وبنيته الهرقلية. كل حركاته كانت موزونة، هادئة، ورزينة. ولم تكن نظرته تخلو من الذكاء، ولكنها تنم عن قسوة وسخرية، كابتسامته. وكان أغنى السجناء المتاجرين في الخمرة. بعبارة أوضح: هو رأى نفسه بسبب تكوينه هذا، قويًّا يستطيع تحمل أي شيء. وعمل الخمرة، شديد لأنه يهّرب إلى السجن، وهو يريد المال، فرأى أن هذا العمل هو العمل الذي يصلح له.
ويوضح هذا ما يقوله بيتروفيتش: إن السجين أثناء التهريب، يظهر كل ذكائه ودهائه اللصوصي. إن شرفه على المحك.
المال حرية رنانة
يقول بيتروفيتش: إن المال حرية رنانة وراجحة, لا تقدر بثمن بالنسبة إلى إنسان حرم حرمانًا كاملًا من الحرية الحقيقة. إذا أحس السجين ببعض المال في جيبه، فإنه يتعزى عن حاله، حتى ولو لم يستطع إنفاقه. ولكنّ المال يمكن إنفاقه دائمًا وفي كل مكان. على الفودكا وعلى التبغ وعلى الجنس وعلى الأكل. ينفق السجين كل ما جمعه من مال في لحظة واحدة. بعبارة أوضح، المال يحقق له الرغبات التي يمنعها عنه السجن.
التسلية بالشجار والسخرية
في كثير من تفاعلات البشر يكون فيها منافسة وتعلية. كرة القدم مثلًا. فماذا أن يمكن أن يكون لدى هؤلاء المجرمين من تفاعلات يتنافسون فيها؟ يقول بيتروفيتش: إن المتخاصمين يتشاتمون في المقام الأول بدافع التسلية، ومن أجل المران على الفصاحة والبيان. إنهم يهتاجون ويتخذ الخصام طابع الحدة والضراوة، فيتوقع المرء أن يرى أحدهما ينحر الآخر، لكن يقع شيء من ذلك، فهما يفترقا عندما يصل الشجار إلى حد معين. أدهشني ذلك كثيرًا، هل كان يمكنني أن أتصور أن يتشاتم شخصان رغبة في المتعة، وأن يجدا في الشتيمة لذة معينة؟
لا يجب أن ننسى حب الظهور والميل إلى الغرور: فالمحاور الذي يجيد السباب كفنان يحظى بالاحترام، بل يكاد أن يصفق له السجناء كما يصفق الجمهور لممثل قدير.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 2,365
قراءة في رواية سجين مجرم لدستويفسكي
link https://ziid.net/?p=83432