ما بين موت القيم وصناعة الجمال
ليس هناك أسهل من الادعاءات وإتقان الكذب، لصنع هالة منيرة حول ذواتنا الفارغة.
add تابِعني remove_red_eye 11,914
في تسعينات القرن الماضي شاهد العالم في صمت أطول حصار عسكري حدث في التاريخ الحديث، حصار سراييفو، حيث قامت القوات اليوغسلافية بمحاصرة مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك لمدة تقترب من أربع سنوات.
في مناخ يسوده التطهير العرقي لأهل البوسنة، ووقوف العالم أعمى أمام جرائم الذبح التي حصلت في حقهم، والادعاء بأن جرائم القتل الممنهجة كانت مجرد عوارض جانبية لحرب أهلية غير متكافئة، كان الأدب موجود ليحفظ الذاكرة الجماعية لتلك الكارثة الإنسانية.
الأدب وصناعة الجمال
إلى أي حد يمكن ان يساهم الأدب في صناعة الجمال؟
الأدب قادر دائمًا على إبراز مظاهر القبح والجمال في العالم، بل التركيز المكثف عليها، ففي الحرب تنعدم القيم وتسقط المثل العليا، وتتلاشى كل الادعاءات المثالية. وهذا ما أظهرته مسرحية (وقاد النار) للكاتبة البلجيكية إيميلي نوثومب، والتي استوحتها من حصار سراييفو، تروي الكاتبة في إطار مسرحي جذاب، كيف يمكن للحرب والجوع نزع إنسانيتنا، وكيف لها أن تعري حقيقتنا.
في سياق مأساوي بليغ، تظهر الكاتبة حيوانية الإنسان، فتكشف الإخلال بالأبعاد الأخلاقية المتمثلة في الأستاذ الجامعي المرموق الذي يوقع بتلميذاته في شرَك حبه، فقط لكونه يملك السلطة عليهم، فيتحول من الرمز المفترض أن يكون أخلاقيًّا، لعربيد يستمتع بسلطته المطلقة على مَن هم أدنى منه. المسرحية تدور في فلك ثالث شخصيات رئيسية، الأستاذ الجامعي، مدعي المثالية والفضيلة والذي تكشفه الحرب فيرمي بآرائه وقيمه عرض الحائط، وتنكشف ادعاءاته.
فالكتب التي يمجدها كانت أول ما رمى بها في المدفئة، والأخرى التي كان يستهزئ بها ويقلل منها انكب على قراءتها وأظهر لها كل الحب الذي كان يخفيه، فالعزلة التي فرضها الحصار والبرد القارص الذي يفتك بعظامه أظهر وجهه البغيض.
أما الشخصية الثانية فهو تلميذه دانيال، الشاب الثلاثيني المغامر اللعوب الذي ينتهي به الأمر إلى الرغبة الملحة للتدفئة، غير عابئ بأي شيء آخر ولا حتى الحياة، ولعل الحرب منحته الشجاعة أخيرًا ليبدي احتقاره لأستاذه بدل التملق الأكاديمي المزيف الذي كان يكد فيه. أما الشخصية الثالثة المتمثلة في الباحثة العذبة مارينا، النحيفة والواقعية، فهي عكسهم تنطق بالحقيقة وتعترف بأن الحياة تدفعنا إلى الاستمرار حتى الرمق الأخير، فنتخلى عن كل القيم الرنانة، فقط عندما نكون على المحك.
تقول مارينا في أحد مشاهد المسرحية: لن تكون لي أية رغبة أبدًا في تشييد شي ما يهمني بسبب هذه الحرب. إن ما يجعلني أحلم به هو الدفء وليست الحياة. فتمحو الحرب كل أحلامها السابقة عن نفسها وجودة حياتها، فحتى تلك الأحلام الوردية الخفيفة أصبحت قديمة وعفنة، ولم تعد تحتل جزءًا من ذاكرتها، كل ما ترغب فيه هو الدفء، فهي تحرق الكتب. وهنا لا يحق لنا إصدار الأحكام طالما لم نذق ويلات الحرب أو الاحساس بالبرد حد التجمد.
مراسم حرق الكتب
منذ عدة سنوات عند قراءتي لمشهد حرق الكتب في رواية (ثلاثية غرناطة) للروائية المصرية رضوى عاشور، كنت أستشيط غضبًا، كيف يمكن للناس ترك الكتب التي يحبونها لتحرق بمثل تلك الهمجية دون أن يحركوا ساكنًا ثم بعدها بفترة قليلة، فهمت أن من يملك القوة يفعل ما يشاء، وليس هذا فقط ولكنك بشكل غريزي تحاول أن تحافظ على حياتك، حتى وإن دفعت كل ما تحب ثمنًا لذلك.
ففي مراسم الحرق البسيطة التي ضمنتها المسرحية، كانت بالمقابل لحظة انكشاف للضعف الإنساني، التي تمر به الإنسانية تحت سطوة القوة. كانت لحظة الحرق، واختيار الكتب التي من المفترض أن تحرق أولا بناء على قيمتها الأدبية التافهة أو العظيمة، فرصة سانحة لهم لأن يصرحوا بحبهم للكتب التي طالما قلّلوا من قيمتها الأدبية، وهاجموها بشراسة واستصغروها .
هل نملك ذواتًا حقيقة؟
يراودني هذا السؤال باستمرار: هل ما نشعر به ونؤمن هو ما يشكل حقيقتنا؟ أم أنها مجرد ادعاءات ستسقط في وقت ما، لتنكشف ذواتنا الحقيقة التي ستكون عبارة عن كتلة من الفراغ لا تملك شيئًا؟
لما مجّد الأستاذ في أعمال أدبية وقلل من قيمة أخرى؟ لأجل ماذا نمارس الزيف؟ للقبول الاجتماعي مثلًا!، أو حتى لا نشعر بوحشة النبذ والعزل عن باقي المجموعة! أم لأجل الشعور بالتميز والعلو.
قراء المسرحية فرصة جيدة لنتأمل ذواتنا وقيمنا بشكلها المجرد بعيدًا عن أعين وأحكام الآخرين، لنرى هل حقًّا نحن ما نحن عليه.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 11,914
الأدب دائمًا يستطيع كسر كافة الحواجز والحدود
link https://ziid.net/?p=67993