نحن والعرف الاجتماعي
الأعراف هي جزء من ثقافة المجتمع وهي من الأمور الراسخة التي يصعب تغييرها حتى وإن كانت أحيانًا مخالفة للعقل والعلم
add تابِعني remove_red_eye 2,806
تُشنُّ على العرف الاجتماعي منذ فجر العولمة والثورة التكنولوجية حملات هجومية طاعنة في البطلان، تراه منبعًا دافقًا للرجعية الفكرية والتخلف؛ فهو مطمور على عادات وتقاليد موروثة في شتى أنحاء الحياة تتعارض وتطورات الثقافة الوافدة، ويلهب نفوس متبعيه وحماسهم تجاه التمسك به والتقيد بما أقر وألزم، وردّ كل مستحدث أو جديد يمسه أو يحدث فيه تغييرًا ولو بسيطًا، فهل كل عرف اجتماعي مقبول أم مردود؟
أولًا: ما البقاع التي يسكنها العرف؟
يسكن العرف من الأقطار كل قطر وبقعة تقتصد في الوسيلة الحديثة وتبتعد عن رفاهية العيش إلى الاعتماد الذاتي على توفير ذلك كله، فوسيلتهم غير الوسيلة الحضرية، ورفاهيتهم تتمثل في زيّ آخر، وقد يجوز لنا أن نفرض أن العرف بقوانينه يسكن المناطق التي تسبق في تاريخها عن منطقة أخرى في ذات البقعة الجغرافية؛ فالريف أسبق من المدنية في المحافظة، والبداوة أسبق من الحضارة في الجزيرة العربية، وسكان السواحل أسبق من سكان التخوم في البلاد الساحلية.
فإن جاز لنا اعتبار السابق في الناحية التاريخية هو الأصل، نقول: إن العرف الاجتماعي يقطن في أصول البقاع التي تتمسك به وتحافظ عليه، ألا ترى مثلًا في الزيّ الريفي ثبات مُحافَظ عليه من خمسينيات القرن المنصرم، يتدرج التطور فيه تدرجا ضئيلًا لا يمسه في الصميم، وأن الزي المدني سريع التطور من عقد إلى آخر لأنه القبلة الأولى لأي تمازج ثقافي؟
وقد دل على ذلك شهادة المعلمين المدنيين إذا التقوا طالبًا من الريف، حيث ينعت بأفخر الصفات ويُكسى بالإكبار، باعتبارهم الريف نقيًّا من الشوائب الثقافية، لديه درع من التقاليد والعادات يصدّ موجات الانحدار الذوقي، التي لا تُفرز في المدينة فيقبل عليها الجمهور دون وعي، كما أن أمثلة من مثل أعراف الجزيرة العربية تضع لنا صورة جلية عن نظرتنا، فإن بعض الأماكن ترى في المناطق التي تتمسك بالأعراف مرجعية لها، حيث أرسل أهل المدن والإمارات العربية أبناءهم قديما إلى البادية في صحراء نجد والحجاز وحضرموت كما فعل عبد المطلب جد النبي -صلى الله عليه وسلم- معه وأرسله إلى حليمة السعدية ترضعه، فكانوا يعلقون على ذلك بأنه يكسبهم فصاحة اللسان ورجاحة العقل، وقوة البنيان، كما طُلبت علوم اللغة قديمًا من القبائل البدوية، مثل: قيس وتميم وأسد وطيء، باعتبارهم لم يخالطوا عجمة في النطق.
ثانيًا: ما الصورة التي احتفظ بها العرف عند أهل الحضر؟
في العصر الحديث، كان الشروع في التخلي عن الهويات، وساح الحابل بالنابل أيما سياحة، فنشأ الذوبان الاجتماعي وبدأت تمحق الأعراف والتقاليد وتنطمس الدلالات على الأقوام، فأنت تنظر الآن في عين المرء وليكن في الولايات المتحدة لا تدري أهو أمريكي أم إسباني أم أسترالي، إلا بعض المناطق التي احتفظ الشكل بسمت الهوية، فإنك وسط كل ذلك لا تنكر الياباني ولا الأفريقي.
لكن الذي يهمنا في هذه النقطة أن صاحب الأعراف والتقاليد من المناطق المذكورة إذا قصد الحضارة توحّش ودبّ في نفس منجل الغربة، وعلى الجانب الآخر يلقى بنظرات الاتهام بالرجعية لأنه مخالف لما هو كائن وصائر على أرض الواقع، أو بما لا يلائم القيم والاتجاهات الحديثة، كذلك تسود بعض العادات في البقاع الموغلة في التمسك بالعرف، كتكحيل المولود بسائل البصل عند الأرياف المصرية، ووأد البنات قديما عند بعض قبائل العرب، وحرق الموتى عند قبائل شرق آسيا، وكذا طبائع سادت في كثير من الأقوام جعلت من التمسك بالعرف والتقاليد نكتة عند أهل الحضر، واتهم العرف بجملته بالتخلف والجهل، وصارت اللافتات تلوح بإماتة الأعراف الشعبية تمسكًا بالقيم الوافدة.
وقد كان لهم بعض مما طمحوا إليه، حين نزح الكثير فعلًا من أهل الريف إلى المدينة بعد حرب أكتوبر في مصر إلى مدن العمالة بالثروة البترولية والسعي إلى لقمة العيش، فبدأت عقدة الأعراف عندهم تتنفس قليلًا.
ومشكلة العرف مع الحريات أنه ينطوي في ذاته على مكمن وجوهر الهوية، فإن العروبة مثلًا تتدرج عرقيًّا بدءًا من إمارة أو مملكة مثل الغسسانة قديمًا، إلى قبيلة كبرى مثل قريش، انتهاءً بالقبائل الموغلة في البداوة مثل قبائل الأعراب، فإن هؤلاء الذين حافظوا على سماتهم المحلية التي صدّروها إلى المدن، فلما تصادمت مع الثقافة الوافدة سرعان ما امحقت ولم تُخلف إلا الأثر الضئيل، كذلك الذي نشهده حديثًا في صعيد مصر، وزحف الحضرية إليه.
ثالثًا: هل كل عرف مقبول؟ وما هو رأي الإسلام في العرف؟
لم يتعارض الإسلام مع العرف الاجتماعي البتة، بل عرض له كأحد مصادر التشريع، فقال تعالى في محكم التنزيل: “خُذ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأَعرِض عن الجَاهِلين”، وقال جلّ وعلا: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”، وذكر الفقهاء في نصوصهم أن “الثابت بالعرف كالثابت بالنص”، وكذلك ردّ من العرف المتعارض مع الأدلة الشرعية، ولا يلتبس هنا أن جعل الله العرف مقيدًا بالشريعة الإسلامية من جهة، وجعله من مصادر التشريع من جهة أخرى، لأن جميع مصادِر التشريع إنما تستقي من بئر واحد وهو النصّ الشرعي، وما يتفق مع الأمور العريضة والأصول الإيمانية، إنما جعل للعرف التشريع في المتغيرات الزمنية طبقًا لما أقرّه الشرع عليه من ضابط.
ومن الأعراف التي أقرها الشرع واستمرت معه وكانت سابقة عليه:
أن ألزم الإسلام الزوج بتقديم مهر لزوجته ليعلن على الناس جميعًا رغبته فيها وحرصه عليها، وحثّ على التيسير في المهر وعدم المغالاة. إلا أنه ترك تحديد قيمة المهر لما تعارف عليه الناس، وأعطى للرجل حق الإعلان عن رغبته في المرأة التي يريد الزواج منها بالطريقة التي يرتضيها وترضيها، ولذلك قال فقهاء الإسلام بعدم وجود قدر محدد للمهر، بل هذا متروك لسعة الزوج وقدرته وللأعراف السائدة بين الناس، فمهر فتاة من أسرة كبيرة يختلف عن مهر فتاة من أسرة بسيطة، ومهر فتاة متعلمة تعليمًا راقيًا يختلف عن مهر فتاة لم تنل حظًّا وافرًا من التعليم وهكذا.
كذلك لمَّح القرآن لبعض من المتعارف عليه في ذهن العرب، فإنهم كانوا في نظمهم الشعر يأتنسون بذكر الصاحبين كما قال امرؤ القيس بن حجر: قِفا نَبْك من ذكرى حَبيب ومَنْزل .. بسِقْط اللِّوى بين الدُّخُول فحَوْملِ. فجاء في القرآن الكريم: “ألْقِيا في جَهَنَّم كُلَّ كفَّارٍ عَنِيد”، والمعروف أن من سنن آداب العرب مخاطبة الاثنين وإرادة المفرد، فدل ذلك على أن القرآن لم يُرد جلّ الأعراف.
أما من الأعراف المردودة كما ذكرنا أنه ردّ على العرب وأدهم البنات، ولأن الأعراف مسألة موازية مع مرور الزمن احتاج إلى ضوابط تحدد مسارها، فوضع لها ضوابط منها:
١ – أن تكون مطردة في الاستعمال، أي شائعة في مثلها من الحالات.
٢ – ألا تخالف الدليل الشرعي.
وغيرها من الأحكام التي نصبَها على صلاح العرف في التشريع. حتى نخرج إلى أن ليس كل عُرف مردودًا، بل هو كذلك واجب عليه أن يتواءم والشرع الإسلامي.
إليك أيضًا
add تابِعني remove_red_eye 2,806
هل تعد كل الأعراف مقبولة أم مردود بعضها؟ مقال مثير ويطرح العديد من الأفكار الهامة
link https://ziid.net/?p=65203