فخ المقارنات والتنميط الاجتماعي
المقارنة لن تصل بك أبدًا إلى وضع أفضل، بل على العكس ستجعلك تشعر دائمًا بالضغط وقد تؤدي إلى زيادة شعورك بالحقد على الآخرين
add تابِعني remove_red_eye 21,546
تُوزَّع النتائج المدرسية على الصغار، يعود الطفل مبتهجا بنتيجته، يسأله أحد الأبوين: وصديقك فُلانٌ كيف كانت نتيجته؟ تعود فلانةٌ من الخارج مبتهجةً بمشوارٍ صغيرٍ، بدفترٍ اقتنته أو بخروج مع الصديقات، فتخبرها والدتها: فلانة جارتنا، زميلتك في مقاعد الدراسة، اليوم خطبتها بينما لم تجدِ عريسًا بَعْدُ/ فُلانة التي في مثل سِنِّك أنجبت وأنتِ لم تُنْجبِي بَعْدُ / فلانة أنْجَبتْ صبيًّا أَمَّا أنتِ فأنجبت فتاةً.
فلان عمل في الشركة الفلانية، فلان فتح مشروعه الخاص، فلان درس الطب بينما درست تخصصًا لا معنى له، فلانة اقتنت لجهازها فساتين وأدوات مطبخية ماركة عالمية، استأجرت أغلى قاعة في المدينة، فلانة تزوجت صاحب العمل الثري.
لماذا لم يحدث معي هذا؟
كم مرَّةً مرت عليك هذه الجمل؟ كم مرة كنتَ ممن قارنوك بغيرك؟ كم مرة جلست لتتساءل: لماذا لا يحدث معي هذا مثل الجميع؟ في الواقع، نحن ضحايا لفخّ المقارنات، نُقارَن بالآخرين، يُقارَن الآخرون بنا، يخلقون معيارًا للحكم على الناسِ ونطلق به الحكم على أنفسنا، ملاحقون دوما بشعورِ: يجب أن تكون على هذا النمط ، مع أنه لا يأتي صريحًا بهذا اللفظ ولكنه شعورٌ وصوتٌ خَفِيٌّ يزرعه فينا المجتمع.
تنميط المجتمع وخنق فردية أشخاصه
يعيش الفرد وسط المجتمع، المجتمع ككُتْلَةٍ من الأفراد تنتمي لنفس العادات والتقاليد والقيم، ونفس المعتقدات الدينية في الغالب، يخلق كل هذا قوانين أو كتالوجا معينًا يسعى الجميع بوعيٍ أو دون وعي في الغالب ليكون نُسخةً ومِثَالا عنه، لا يَهُمُّ كَمْ نُسخة مكررة ينتج لكن المهم ألَّا يحيد عنه أحد، يجب أن تكون نتائج الطفل المدرسية ممتازة، يجب أن يختار تخصصًا يجد ترحيبًا ودعمًا اجتماعيًّا بل ويضمن مكانة، يجب أن يتخرج من الجامعة فيجد عملًا مناسبًا، ويجب أن يرتبط في سنٍّ معينة. هذا كتالوج مصدر ونعرفه جميعا. رؤية تنميطية بالغة، تخنق الفردية ولا ينجو منها إلا القِلَّة.
صراع الغاية والأولويات في المجتمع
لكن لا أحد يفكر في خلفية كل فرد، مع من يعيش؟ كيف يتعامل معه والداه؟ ما هي رغبته الخاصة وتصوره عن حياته مقابل رغبة والديه ورغبة المجتمع؟ ما هو موقفه من التخصص الذي يطمح له؟ هل يريد أن يواصل تعليمه العالي أو يتجه نحو حرفة أو تطوير هواية؟ هل الارتباط في هذه المرحلة من حياته مهما وضرورة أو يعتبره عائقًا على مسيرته؟ ما يقف المجتمع به أمام الفرد هو “الأولويات والغاية”: صراع الأولويات والغاية للفرد أمام العائلة والمجتمع، ليس هذا فقط، وإن عبَّر الفرد بأولوياته ورغباته واتخذ سبيلًا إلى ذلك ستتم ملاحقته بالضغط الاجتماعي، وأحيانًا كثيرة بالوصم.
فمثلا حين يختار فرد عدم الإنجاب، فهو ملاحق بفكرة “اللاإنجابي” التي تتحول من مبدأ إلى لقب، دون أن ننسى الوصم الاجتماعي الخاص بكلِ جنسٍ. فعلى سبيل المثال وصف “البايرة” المرأة التي لم تتزوج سواء برغبتها الشخصية أو لعدم التقائها بالشريك المناسب.
السوشيال ميديا وفخ المقارنة
مع اتخاذ السوشيال ميديا لمساحة كبيرةٍ في حياتنا، زاد الأمر، توسعت المقارنات، زادت الأمثلة وأنماط العيش المختلفة في المجتمع الواحد، وبدل المقارنات التي كانت تمارس علينا في الغالب، أصبحنا نمارس ذات الفعل على أنفسنا، ببساطة بالغة (جلد الذات)، شخص يساوينا سِنًّا، هذا ما يَصدُر بطريقة لاواعية أن نكون حققنا ما حققه، وهكذا نعيد بالضبط فكرة الكتالوج المجتمعي ولكن على شخصين أحدهما كتالوجا والآخر نسخة.
من أيامٍ قليلة شاهدتُ فيديو من إعداد وتقديم الفلوجر المصرية أسماء الشريف، حيث استطاعت بمثال ذكي تشرح فكرة المقارنات بين شخصين بنفس العمرِ وفي مدة زمنية واحدة، كم كيلومترا ركض كل منهما؟، ثم في كلِّ مَرَّةٍ تضيف معلومة كنا نجهلها، نوع الأرضية التي ركض كل منهما، المرض الذي يعانيه أحدهما، لم تكن تجربة الركض الأولى بالنسبة لأحدهما، نوع الحذاء الرياضي، وهكذا.
كان مثالا بارعًا ودقيقًا في تمثيل حياة كلِّ فرد، فالمدة الزمنية تعني السنّ، الركض هو ما نفعله في حياتنا، أما العوامل التي كانت تذكرها في كلِّ مرة والتي كانت تمثل مصابيح تضيء تجربة كل فردٍ منهما، هي تمثل الخلفية الحياتية لكل فرد، الظروف والتجارب التي مرّ بها كل منا. وإذا اعتبرنا أن الحياة عبارة عن أسبابٍ تقدم نتائج، دون إنكار فكرة الصدف والأقدار، والظروف أيضا فلا بدّ أن تكون حياة كل منا مختلفة انطلاقا من أول يومٍ جئنا فيه للعالم، فنحن لم نختر جنسنا، ولا أبوينا، ولا البلد الذي جئنا إليه، ولا ديننا، ولا أسماءنا ولا الطبقة الاجتماعية والاقتصادية التي ننتمي إليها.
ولكننا جئنا ووجدنا أنفسنا في ظروفٍ ومع أشخاصٍ نتعامل معهم. تختلف حياة فردٍ ولد في ملجأ أو بيتٍ أو قصر، بين أُمٍّ وأبٍ حقيقيٍّ أو مُتَبَنٍّ، بين فردٍ عاش حربًا أو سلامًا، بين القدرات العقلية ونسبة ذكائه، وربما الأمراض التي يعاني منها، ويستمر معه كل ما لم يختره وإنما يتعايش معه بتَقَبُّلٍ ومحاولة تحسين حياتِهِ أو رَفْضِه تمامًا ورفضِ الحياة. وهكذا تستمرُّ الحياة فيما لم نختره أو فيما بعد ما نختاره بكاملِ وعينا، ما نريده ولا يريده الآخرون أو لا نريده ويريده الآخرون. في حياتنا أفعال لا دخل لنا بها كالأسماء والأبوين، أخرى نريدها ونختار مواجهة المجتمع لأجلها أو نواجه أنفسنا ونرضخ للمجتمع.
هذه المقارنات التي لا تنتهي، تتحول في كثير من الأحيان إلى صرحٍ من “التنمُّر” الواضح الصريح. سواءٌ لما جئنا به ماديًّا ومعنويًّا منذ ولادتنا أو ما اكتسبناه وما نريده، تنمُّر على شكل -الذي نريد- طموحاتٍ وأهدافٍ وأيضا عن الذي نرفضه، لقد برز هذا كثيرًا على منصّات التواصل الاجتماعي.
يتنمَّر فريقٌ من الناسِ على طموحاتِ العمل والسفر وتحقيق الذاتِ كأولوية في حياة البعضِ، ويتنمَّر آخرون على أولوية الارتباط والإنجاب في حياة البعضِ الآخر، يتنمَّر فريقٌ من الناس على نمط الحياة البسيط الذي ينتهجه البعض، وأمثلة كثيرةٌ تتحول من خانة نمط الحياةِ المحبّب الذي لا يؤذي الآخر ولا يمس حياته، وتتحول أولوية الفرد إلى موضوعٍ شائك تعود فيه رائحة الكتالوج المجتمعي وما ينص عليه.
وسط الكثير من المقارنات التي يفرِضها الآخرون على الفرد، ويفرضها الفرد على نفسه، الخيارات والرغبات التي يريدها ويرفضها المجتمع والعكس، يعيش الفَرْدُ حياةً مرسومة من قِبَلِ: كتالوج جاهز للاستعمال ليس مهمًّا أن يكون على مقاسه أو ضيقًا، أو يختار النجاة والسعي خلف رغباته الذاتية سواء دعمها أو رفضها المجتمع.
add تابِعني remove_red_eye 21,546
يتناول المقال فكرة المقارنات بين الناس، التنميط الاجتماعي وخنق الفردانية وكيف للفرد أن ينجو
link https://ziid.net/?p=58710