الرحلة من الشك إلى الشك – تفكير نقدي
لا يقين إلا بعلم تام أو اقتناع راسخ، وقناعة بأن الشك تمرين ودراسة وإلا وصل المرء إلى مرحلة الارتياب التي تجعله متذبذبًا كالكهرباء
هل الشك نعمة أم نقمة؟ يعرف أكثرنا المقولة الشهيرة المنسوبة لديكارت “أنا أشك، إذا أنا أفكر، إذا أنا موجود” وهي مقولة ولا شك تحمل الكثير من الصواب. ولكن هل الشك نعمة أم نقمة؟ أظن أن الشك إذا كان يؤدي بالإنسان إلى التفكير النقدي والتحليل الذي يصل من خلاله إلى ما يرضي عقله من استنتاج، فيستقر في نفسه ويستبصر به قلبه فهو نعمة وممدوح ولا شك. أما الشك الذي يؤدي بصاحبه إلى التعطل والتردد الذي لا يستقر، فهو نقمة وأي نقمة.
فإن هذا النوع من الشك المذموم يقود صاحبه إلى شلل التفكير وتصحر البصيرة، إذ لا يكون له رأي مستقر في أي جانب من جوانب الحياة، بل وحتى تخصصه الذي درسه واشتغل فيه لسنوات يكون فيه مترددًا لا يتقدم. فإنه -ويالذمامته من شك- يؤول بصاحبه إلى مآل يشك فيه بنفسه وقدراته، بل وعلاقاته الإنسانية ويصل به إلى حد الارتياب.
التفكير النقدي
ومن هنا ومن أجل أن يقود المرء شكوكه لا أن ينقاد لها يأتي دور التفكير النقدي والذي هو التحليل الموضوعي للأمور للوصول إلى قناعة أو وجهة نظر ولا أقول إلى حكم، إذ إن الحكم لا يأتي إلا من منزلة اليقين النادرة بما لها من خصوصية وقدسية. يتلخص التفكير النقدي في طرح الأسئلة والعُقَد بوضوح، وجمع المعلومات الممكنة وتحليلها ثم التواصل بفاعلية مع الغير من أصحاب التخصص والرأي لتشكيل قناعة ذاتية أو استقرار رأي [1].
فالشخص الذي يفكر بشكل نقدي لا يتعصب لرأيه وإنما يخلص إلى مقولة الإمام الشافعي “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
بين الشاكِّ والمشكوك فيه
فالتفكير النقدي يعين على المرء أن يبني قناعاته وآراءه على الفكرة والتحليل النقدي دون أن يبنى اقتناعه برأي لمجرد طرحه من شخص محل ثقة، فإن المرء في هذه الحالة يضع قناعته في موضع آيل للسقوط، إذا ما رأى من الشخص ما لا يطيقه أو ظهر منه ما كان يبطنه بخبث، ففي هذه الحالة تنهار القناعة وقد يجد المرء نفسه قد كوَّن قناعة عكسية بشكل آلي وغير واعٍ وهذه هي خطورته.
يقول الشاعر عبد الله الفيصل في مطلع قصيدته “ثورة الشك” التي غنتها أم كلثوم: “أكاد أشك في نفسي لأني ** أكاد أشك فيك وأنت مني” فقد صور الشاعر اهتزاز المرء وصدمته إذا ما شك فيمن كان في محل الثقة العمياء التي لا ترقى إلى الشك، بل إنه قد أدى بالإنسان إلى الشك في نفسه وقدرته على التحليل والاختيار بالتبعية.
في ذمِّ الشك والمشككين
ولكن لماذا اعتدنا رؤية ذم الشك والمشككين في غالب الوقت، فمثلًا حين ترى كتاب الدكتور مصطفى محمود “رحلتي من الشك إلى الإيمان” قد يظن البعض أن الكاتب يساوي ما بين الشك والكفر، حيث إن مضاد الإيمان هو الكفر، ولكن الحقيقية أن الكفر لغويًّا هو يقين مضاد ليقين شخص ما أدى لإيمان مضاد لإيمانه فكفر بما يؤمن به الآخر وآمن بما يكفر به الآخر. أما الشك هو مرحلةٌ بين اليقينَيْن، يقين المؤمن ويقين الكافر.
وإنك حين تقرأ الكتاب السابق ذِكْره ترى أن الدكتور مصطفى محمود كأنما كان يقصد أنه لم يؤمن إيمانًا مضادًّا وإنما كان متشككًا مترددًا فلم يكن إيمانه مكتملًا مستقرًّا حينها، كأنما كان بين ضفتي نهر لا يدري على أيهما يستقر، وكان قد ترك نفسه لتيار الماء يموج به بين الضفتين يقترب من هذه تارة ومن الأخرى تارة، حتى وصل للإيمان، وهذه هي الرحلة. ومن هنا نقول إن الشك ليس كفرًا فعكس الكفر هو الإيمان والإيمان لغويًّا هو “العلم التام” أو “أعلى مراتب العلم” كما ذكر السعدي في تفسيره أو هو “الاقتناع الراسخ” حسب ترجمة Oxford Learner’s Dictionary.
أما المشكِّكون فهي كلمة توضع موضع الذم، بل وفي غير مرة توضع موضع السب، فنسمع أحيانًا عبارات مثل إنه شخص أو أمر “يثير الشكوك” أو عبارة مثل “الرد على المشككين”، والأكثر من ذلك “إخراس المشككين” وهلم جرا، وكلها عبارات بلا شك مقصود بها ذم المشكِّكين ونعتهم بأصحاب الأطماع والأحقاد، بل وبالمتآمرين، فمن يفعل ذلك إنما يشخصن الأمور ويكون أبعد ما يكون عن التفكير النقدي وبشكل تبعي ولا إرادي يصف ويرفع ما يدافع عنه -سواء شخصًا أو فكرة- إلى مرتبة لا ترقى إلى الشك، وهو أمر مشكوك فيه أن يوجد.
التشكيك ونظرية المؤامرة
ولذلك، كثيرًا ما ينسب فعل التآمر وصفة المتآمر وصاحب المصلحة لمن يثير الشكوك حول أمر ما، وكلما كان التشكيك في أمر يخص العامة، كلما علت الأصوات الواصمة للمشكك بالمتآمر والناعتة له بالعميل صاحب المصلحة، بل وصاحب الأجندة، في مواقف عدة وما إلى ذلك من صفات.
فكيف لنا أن نتبين إن كان المشكك يدعونا إلى الشك من باب المؤامرة، أم من باب المكاشفة والتنوير والحض على التفكير. لطالما كان هذا الأمر يشغلني كثيرًا ويؤرقني، وقد توصلت لبعض الخطوات التي وضعتها لنفسي بمثابة قائمة الفحص أو كما يطلق عليها بالإنجليزية “checklist” وهي كالتالي، أولًا: أبدأ بالتركيز على الفكرة لا الشخص، ثم أحلل الفكرة بالتحليل والتفكير النقدي كما ذكرنا سالفًا ومن هنا يكون قد بدأ أن يتكون عندي رأي شخصي تجاه الفكرة أو “المعضلة”.
ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مناقشة رأيي مع متخصص، خاصة إذا لم يكن الرأي مستقرًّا في نفسي. حتى أصل إلى مرحلة تكوين القناعة الشخصية، فإذا لم أصل لها أعود مرة أخرى إلى مرحلة التفكير النقدي وتحليل رأيي الذي كونته حتى أصل به إلى مرحلة القناعة.
فماذا عن نظرية المؤامرة وفرضية أن الشخص الذي يشكك في أمر ما، إنما يفعل ذلك لهدف باطن في نفسه. الحقيقة أني أجد صعوبة بالغة في تبيان حقيقة الأشخاص وما يرمون إليه ويصبون إليه، لأن التيقن من ذلك يتطلب التفتيش في النيات التي لا يعلمها إلا الله، ولكني هنا أضع هذا الأمر محل التفكير النقدي -مرة أخرى- وأجد نفسي أتساءل عدة أسئلة، هل هذا الشخص يدعو للشك بوجه عام كدعوة للتفكير وإعمال العقل، أم أنه يلح على التشكيك في باب واحد من مناحي الحياة.
فإن كان يلح في باب واحد من مناحي الحياة فهل هو من أصحاب العلم في ذلك المجال، هل هو متخصص أو باحث يبغي اليقين، هل درسه دراسة مستفيضة فجمع اللازم من معلومات، فألم به لتكوين قناعة وتحليل الأمر. هذه هي العوامل التي استخدمها لا أقول في الحكم على الأشخاص لأني لست حكما، ولكن لتحليل المواقف وتبيان المآلات. ولا يصح أبدًا أن يكون ذا الشخص الذي يدعو للشك في أمر ما بدعوى الحض على إعمال العقل، لا يقبل الشك فيما يقول وإلا كان كمن يكفر بدعواه.
ختامًا، كل ما سبق عرضه هو وضع للشك في موضع الشك، وتشكيك فيه، ويقين أنه لا يقين إلا بعلم تام أو اقتناع راسخ، وقناعة بأن الشك تمرين ودراسة وإلا وصل المرء إلى مرحلة الارتياب التي تجعله متذبذب كالكهرباء فيصعق من يقترب منه بلا حذر، بل ويصعق نفسه إذا تمادى فيه. فإن ثورة الشك في نظري هي تحول الشك من غاية إلى وسيلة وهواية.
هل الشك نعمة أم نقمة، ماذا نقول عن المشككين وما هو التفكير النقدي.. أسئلة تجد إجابتها في المقال
link https://ziid.net/?p=102164