في سجن الوحدة
الوحدة أمر صعب، محيِّر، يخلق لك هالة من الحزن والكآبة، تأكد أن هناك الملايين مثلك حول العالم واسْعَ لكي تنتشل نفسك من هذا الشعور
add تابِعني remove_red_eye 1,060
يعد الشعور بالوحدة من أهم الموضوعات وخاصة حين نناقشها في الآونة الأخيرة. فمن أين تولد الوحدة؟ وكيف نستطيع تجاوزها والعودة مرة أخرى؟
قضت “لاورا ديكر” (519) يومًا بلياليهم في أعالي البحار، وبغضّ النظر عن المرات القليلة التي رَسَتْ فيها البحارة الشابة بقاربها على بعض الموانئ، فقد أمضت ذلك الوقت كله في قاربها الصغير “جوبي” الذي يبلغ طوله أحد عشر مترًا ونصف ويصل عرضه لأربعة أمتار فقط ويتوسط القارِبَ مقصورةٌ صغيرة، وكان ذلك القارب بمثابة مملكتها، وفي أحد هذه الأيام كتبت في سجل السفينة الإلكتروني الخاص بها “كم هو رائعٌ أن تعيش وحيدًا على متن قارب”
المكوث بمفردك ليس بذلك السوء، فالمرء يحتاج إلى الانسحاب بين الحين والآخر، البعض ينسحب كثيرًا وآخرون يتراجعون بصورة أقل، فالانفراد بنفسك بشكلٍ كامل يمكن أن يكون فعّالا ومفيدًا.
وأكَّدَ ذلك كل من “جون كاسيبو” وشريكه المؤلف ويليام باتريك في كتابهما “الوحدة” مُفَسِّرَيْنِ:
على المرء أن يفكر في عالِم أحياء يُجري أبحاثه في غابات مطيرة، أو عازف بيانو يعكف على العزف في خلوته، تخيل فقط وجود راكب دراجة يتدرب في منطقة جبلية، أو فكر في الصلاة والتأمل الروحي والتعلم بالإضافة إلى العمل كمؤلف، كل تلك الأشياء ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالانفراد بالذات لوقت طويل، ضِفْ إلى ذلك كل ما يتعلق بالأنشطة الفنية أو العلمية.
وعلى ذلك فهناك علاقة غير مباشرة بين الانفراد بالذات والوحدة، ولهذا قام كاسيبو الرائد في مجال البحث الخاص بتقاطع علم النفس الاجتماعي مع علم الأعصاب وعلوم الحياة بإجراء أبحاث مع زملائه عن أصول وعواقب وظواهر الوحدة، ذلك في جامعات أوهايو وشيكاغو، وأمضى كاسيبو عقدَيْن كامِلَيْن في إجراء العديد من التجارب والاستطلاعات والقياسات الفسيولوجية والأصول التي تبحث في ظواهر وعواقب الوحدة، وقد أظهر ذلك جليًّا أن الشعور بالوحدة لا ينبع تلقائيًّا من المكوث بمفردك، ولكن المكوث منفردًا يمكن أن يكون أحد المضاعفات المتأخرة للشعور بالوحدة بل ويزيد من ذلك الشعور.
٧ أنواع من الوحدةِ وأثرُها على الإنسان
الثنائي الوحيد
بالنسبة لمارتن هوتسينجر باحث الاكتئاب والأستاذ في علم النفس بجامعة توبنغن، فالعزلة والوحدة فئتان منفصلتان: حيث إن الانفراد بالذات هو ظاهرة اجتماعية تعني أنك لست مندمجًا مع الآخرين، على عكس الوحدة فهي ظاهرة نفسية، بمعنى أن المرء قد يشعر بالوحدة وسط مئات البشر. ويساعد الزواجُ معظمَ البشر على كَبْح مشاعر الوحدة، ولكن قد يشعر المرء بالوحدة أيضًا مع وجود شريك، وهنا أوضحت بعض الإحصائيات أن الشعور بالوحدة ينتشر في علاقات الزواج بشكلٍ أقلّ من غيرها، ورغم ذلك نجد أيضا أن الزواج لا يصاحبه أيّ ضمانات تحمي الفرد من الشعور بالهجر.
وكتب كاسيوبو وباتريك في ذاك الميدان قائِلَيْن: “الوحدة العميقة في علاقات الزواج من الموضوعات الرئيسة التي عُنِيَ بها الأدبُ ونراها بدايةً من مدام بوفاري حتى آل سوبرانوس”. وقد يكون الزواج ليس إلا فَخًّا. “إذا تحدثت بصفتي رجل متزوج، سأقول إن الزواج يقلل من فرصك في إقامة علاقات أخرى” وعندها لا النجاح والشهرة ولا حتى الاحترام والتوقير يقدر على اقتلاع الفرد من براثن ذلك الشعور.
وقد ذكر المؤلفان أسماء بارزة للدلالة على كلامهم مثل: جانيس جوبلين وجودي جارلاند ومارلين مونرو ومارلون براندو والأميرة ديانا، كما نشرت ليبيت ديفيس سيرتها الذاتية تحت عنوان الحياة الوحيدة عام (1962م). وكتبت امرأة مطلقة للباحث كاسيبو تقول: “أنا أعرف جيدًا الفرق بين الانفراد بالذات والشعور بالوحدة، لطالما شعرت بالوحدة وأنا أجلس بين الناس، أشعر بالوحدة في العمل وحين تتحلق العائلة حولي، وكم يقهرني ذلك الشعور في أحيان كثيرة، أشعر به كشعوري بأي مرض عضوي”.
ويقول هويتسيجر في هذا الصَّدَد: إن الوحدة هي التضارب بين حاجة الفرد إلى الاندماج وبين الواقع الاجتماعي، فالمرء يرغب في الاندماج ولكنه لا يستطيع تحقيق ذلك، أو قد يعيش مع أشخاص يَنْأَوْنَ بأنفسهم عمن حولهم.
الشعور بالوحدة هو الجحيم، تصوَّر أن تعيش مع أناس وبداخلك شعور أنك لا تنتمي إليهم، أو أن تشعر بالرفض من الآخرين، يتسبب ذلك في أَلَمٍ بالغ وجذري، وفي أقصى الحدود نَعدُّه أبلغ ألمٍ يمكن أن يشعر به الإنسان ويظل أثره باقيًا على المدى الطويل. وقد أوضحت التجارب أن المعاناة الناجمة عن الرفض الاجتماعي تتشابه مع الشعور بالآلام العضوية، فالدِّماغ تتعامل مع كلا الألَمَيْنِ بنفس الطريقة، فعند حدوث أية آلام جسدية أو اجتماعية تصبح المنطقة المتعلقة بالتقييمات العاطفية والانطباعات الحسية والخبرات السابقة نشطة في المخ.
لا تعرف الرومانسية طريقًا لمن يشعر بالوحدة. كتب الباحثان كاسيبو وباتريك في هذا الشأن: “يُعَدُّ الشعور بالعزلة الاجتماعية أكثر شراسة وأدق من أَلَم القلب اللطيف الذي يعد مادّة خصبة لأغاني البوب ويصلح أكثر كحافز لسيلٍ من الشكاوى الحزينة، أما الوحدة فشيء آخر”.
الوحدة هي العزوف الدائم عن احتياجات البشر الأساسية، التي نَعُدُّها مهمّة لبقاء جنسنا مثل الغذاء والسلامة الجسدية، فعندما سُئلت عن أكثر الأشياء التي تساهم في إسعادهم، قلت: إن الغالبية الساحقة تطالب أولًا بالحب والألفة وإقامة روابط اجتماعية ثم يأتي بعد ذلك الثروة أو الشهرة أو حتى الصحة البدنية.
5 اختلافات في العلاقة الزوجيّة تدل على انتهاء العلاقة
يظلّ الرفض رفضًا
ينبع الشعور المقلق بالوحدة حين تصبح العلاقات تحت التهديد، فالشعور بالانتماء من المسببات الأساسية لشعور المرء بالراحة، وقد اعتد بالسجن والنفي منذ بدء الخليقة كواحدة من أشد العقوبات بعد التعذيب الجسدي والموت، وقد أخرج الله آدم وحواء من الجنة واستبعدهما، وحتى يومنا هذا لا تزال عقوبة الحبس الانفرادي هي آخر وأشقى عقوبات السجن وما تزال مشروعيتها موضوعة قيد المناقشة نظرًا لخطورتها.
لا شيء أقدر على تعذيب الإنسان مثل شعوره بالإقصاء، حتى الامتناع عن التواصل البصريّ مع شخص غريب يشعرنا بالخذلان. وقد عرض ذلك عالِمُ النفس إريك ويسلمان وزملاؤه مؤخرًا في تجربة بحرم جامعة بوردو. وأوضحت دراسات أخرى أن البشر يشعرون عاطفيًّا بالإقصاء حين يتسلل إليهم إحساس بعدم الرغبة في إنجاز أيّ شيء مع المجموعة التي رفضتهم.
في الواقع يظل الرفض رفضًا، حتى ولو كان هذا الرفض موجهًا إلينا، وعلى الأرجح تَمسّنا تلك الحساسية الزائدة بشدة لأننا نشعر أن الرفض يدقّ ناقوس الخطر، فالأَلَم الاجتماعي الحادّ الذي يشعر به التلميذ حين يصنف الأخير ضمن فريقه في حصّة التربية البدنية له انعكاس عاطفي. كما يلفت الشعور الحاد بالوحدة نظرنا دائمًا إلى أن الاتصال الضروري مع المحيطين بنا مهدد بالانقطاع، وفي هذا الصدد يمكننا أن نعد الشعور بالوحدة من الميكانيزمات المجدية والمعقولة من حيث المبدأ، فقد زَوَّدنا التطور في تاريخنا الوراثي بتلك الآلية، ولذا نرى ذلك الشعور يقودنا إلى محاولة الاحتكاك بمن حولنا وتعزيز العلاقات الاجتماعية.
عواقب جسمانية
كل تلك الأشياء تؤدي إلى الاستنزاف الجسدي والعقلي، ويتحدث علماء الفسيولوجيا عن “الضغط الإستاتيكي” ففي المواقف التي نتعرض فيها للتهديد يتفاعل جسدنا مع برنامج صارم: فالجهاز العصبي اللَّاودِّيّ المسئول عن تهيئتنا للتعافي أو عملية الهضم يتراجع بشدة في ذلك الوقت، ويتم ضبط الجهاز العصبي الوُدِّيّ المسئول عن تهيئتنا للتعبئة الجسدية، يفرز المخ حينها الهرمونات المنشطة كالأدرينالين والكورتيزول ومِن ثَمَّ يرتفع ضغط الدم.
وتتفاعل أعضاؤنا الجسدية مع الوهن أيضا، فالجسم يضبط توازنه الداخلي ليلائم الاحتياجات الخارجية ويتكيف معها، ومع التهديدات الشديدة أو التحديات يصبح ذلك التكيف أمرًا منطقيا ومعقولا، ولكن عند حدوث تباين سريع بين الصعود والهبوط يكلفنا ذلك الكثير، كما أن محاولات التكيف نفسها تترك آثارًا على الجسد، كما يرتبط الضغط الإستاتيكي بالالتهاب المزمن وتَلَف الأوعية الدموية.
الاكتئاب المرافق
الاكتئاب هو الملازم الشائع لشعور الوحدة. صحيح أن الظاهرتين مختلفتان كما أكَّد الباحث هاوتسينجر حيث قال: “الوحدة شعور ذاتي، لكن الاكتئاب هو متلازمة مرضية معقدة ترتبط بعدة أعراض، مما لا شك فيه أن الشخصيات المنعزلة تشعر بالفتور، ولكن لحسن الحظّ نَجَا معظمهم من الدوافع العميقة واللا مبالاة والخواء النفسي، الذي يعد مادة خصبة مريعة للمكتئبين”.
ويؤكد كاسيبو أيضًا على ذلك الاختلاف “الاكتئاب يجعلنا خاملين، ولكن على العكس فالوحدة ليست مرضًا في ذاتها، لكنها علامة تحذيرية تأتي في البداية متمثلة في المشاعر الحادة، وذلك على أقل تقدير”
ما الفرق بين الاكتئاب المرضي والحزن العابر؟
التحكم المستمرّ
دوائر الصداقات الواقعية والتواصل الاجتماعي كلها أشياء إلزامية، كما أنها تستنزف الوقت والجهد في بعض الأحيان، ويميل الشباب على وجه الخصوص إلى التحول لجهات اتصالات وهمية وغير ملزمة وذلك عبر الإنترنت، فنقوم بجمع أصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي مثل: “فيس بوك”، ولكن السؤال هنا: هل نحن حَقًّا على اتصال بهم؟
“فيس بوك” هو عالم يطلق على المتابعين أصدقاء، ولكنهم ليسوا أصدقاء حقيقيين بالطبع، نقول إنهم فقط وضعوا تلك العلاقة تحت مسمى الصداقة، وشتان بينهما. تقع العلاقات الافتراضية تماما تحت سيطرة المتصل، ولكن للأسف لا تقدر تلك اللقاءات الآلية على سَدّ فراغ الوحدة؛ لأنها وسيلة لتحقيق غاية محددة ولا تتطلب أيّ مشاركة حقيقية مع الآخرين، إنها بمثابة وجبات خفيفة من التواصل من حين لآخر وضرورية للشهية الاجتماعية، لكنها ليست غذاء مستديمًا.
الاهتمام هو مفتاح الحل
ترياق الوحدة لا يتلخص في بعض المودة التي يُطلب من الآخرين تقديمها، فذاك شيء يستدعي الشفقة، ولكن غالبًا ما يتسبب ذلك في تراجع تلك الحاجة إلى حد ما. عدم طلب الاهتمام هو الدواء، ولكن ذاك الاهتمام يجب أن يقدم بلا طلب، ومن جهة أخرى إذا قدمنا المودة والاهتمام للآخرين وإذا أبدينا الرغبة في المساعدة دون انتظار مقابل، فإننا في الحقيقة نكافئ أنفسنا.
كتب “كاسيوبو” أعرف سيدة عند شعورها بالسوء تترك باقي نقودها في آلة بيع المشروبات، حتى إذا تقدم المشتري التالي، يتمكن من العثور عليها بسهولة، وعندها تشعر أنها أفضل وترد على ذلك بابتسامة ملؤها السعادة. كل رَدِّ فِعل مشابه للمثال السابق يُعَدُّ خطوة أولى، ولكن ليس في وسعها انتشال شخص وحيد نهائيا من عزلته الذاتية، فذلك يتطلب العمل على العادات والمواقف التي تمتد لوقت طويل.
add تابِعني remove_red_eye 1,060
من أين تولد الوحدة، وكيف نستطيع تجاوزها والعودة مرة أخرى؟ مقال يجيبك عن كل أسئلتك
link https://ziid.net/?p=57022