كيف تساعد إعادة تدوير الذكريات في شعورك بالسعادة؟
الذكريات منها المؤلم ومنها السعيد المبهج، جرب في حياتك أن تمارس ما يعيد إليك تلك الذكريات السعيدة لتغمرك السعادة كما فعلت مع والدي
add تابِعني remove_red_eye 1,432
مرحبًا، بينما أنا مسترخٍ أحتسي قهوتي عصر أحد الأيام، رجعَت بي عجلة الزمان للوراء قليلاً فجال في فكري “ما كنت أظنه” قد حدث قريبًا. تذكّرت، عندما عُقد قِران أختي الصغرى قبل أشهر، فإذا بتلك الأشهر (كما كنت أظن) قد تجازوت السنة! وطفلتي التي فُطِمت منذ فترة قصيرة جدًا “كما كنت أظن” إذ بها تهرول تجاه أطراف الثالثة من عمرها!
فاعتدلت في جلستي وتوجهت لا إراديًا إلى مرآة كانت بقربي أتأملني، فوجدتني سأشارف على عتبات النصف قرن بعد سنوات يكفي لكلتا يديَّ إحصاءها! يااااااه! يا للأيام؛ كالسحاب تمر علينا وهي سنين طوال!.. صدقَ من قال بأن العمر لحظات وبعض اللحظات عمر، بينما أنا على تلكم الحال، أتجوّل بين أروقة ذكرياتي والمسافات التي ترَكَتْها عليّ، إذ بأبي يمر من أمامي صدفةً فأبصره إبصار المتفحّص المدقق وكأنه غريب عني! فهَمهَمْتُ وقلت: إن كنت أنعت سنيني بالسحاب لسرعة جريانها، فماذا عن سنينه هو؟!
اشتعال الشيب في كل شعرة من جسده كان هو الإجابة الوافية، أضف إلى ذلك الخمول وبعض الانطواء الذي طرأ عليه خصوصًا بعد مرور سنوات على تقاعده “بعد أن كنت أظنها” سنة لا أكثر. لا زلت أتأمله خلسةً وأحدّث نفسي: كيف سأكون عندما أكون “هو” في يومٍ ما؟ ما الذي أريده؟ ما الذي سيُخرجني من قوقعتي حينها إن تقوقعت؟ هل سأحتكر جمال اللحظات على مرحلةٍ ما من مراحل حياتي وأتوقف؟! لا، وأرفض أن أشارك أبا العتاهية مقالته: ألا ليت الشباب يعود يومًا ** فأخبره بما فعل المشيب.
المهم، وبعد الغوص في التفكير عميقًا، خرجت بما أعتقد أنه أحد الحلول الناجعة لذلك، وهو ببساطة أن أمارس ما أحب وأحب ما أمارس، أن أعيد انتعاش حياتي عن طريق تدوير ذكرياتي! وقررت أن يكون والدي هو حقل تجربتي (: فبدأت أرقب أفكاري لفترة حتى اكتمل بدرها وسطع نورها، فرأيت أن فكرة السفر مناسبة -بما أن الوالد كان “رجال زقرت” يحب السفر والوناسة- طرحت عليه الفكرة فوافق بعد جهد، وطرنا جميعًا مع العائلة إلى أقاصي أرياف الشمال التركي ذات الطبيعة الخلابة بين المراعي الخضراء والأنهار المتدفقة والقرويين البسطاء الطيبين والأطعمة التركية الشهية، عاد بعدها أكثر شبابًا ونشاطًا وحيوية ولله الحمد، علمًا بأن عهده بتلك البلاد كان عام ١٩٨٩.
هل أكتفي بذلك؛ قلت لنفسي؟ فكانت الإجابة أنْ لا، فخطرت لي فكرة أخرى في ذات السياق ولكن هذه المرة أضفت عامل المفاجأة لما خططت له، فأخبرته بأنني على موعد مع بعض الضيوف المهمّين وأتشرف بأن تكون معنا للمسامرة وتناول طعام العشاء، فوافق، وبينما هو في المجلس ينتظر قدوم الضيوف إذ به يُفاجأ بدخول أصدقائه الذين مرّ على صداقته معهم ٤٠ سنة لم يجتمعوا في مجلس واحد منذ زمن طويل جدًا، فسُرَّ أيّما سرور.
لا زلت أطمع بأكثر من ذلك حينما أكون في سن والدي اليوم، فرجعت به إلى زمن الطفولة والمراهقة، إلى حيث ترعرع هناك في الأحساء.. فزُرنا بيت الطين الذي اندرست بعض آثاره إلا من عقله، وتمشّينا بين أزقة ذلك الحي العتيق الذي تعج رائحته نخلًا وماءً وطينًا وحنينًا، فكان يشعر بالأنس لتلك الذكريات التي تنطق بها حتى الجدران من حوله، شعرت بأنه في كل خطوة يخطوها في تلك اللحظة ترجع به سنوات وسنوات.. إلى أكثر من ٥٠ سنة فَلَتَت كالحلم من بين يديه.. اللهم اجعلها شاهدةً له لا عليه.
رأيت كذلك أيها الأحبة أن إعادة تدوير الذكريات ليست حكرًا على المرغوب منها فقط! بل حتى غير المرغوب بها، شريطة أن تكون ذات إضافة للذات، فأخذته في جولةٍ من نوع آخر، كانت هي خاتمة أفكاري “ربما”، فجُلت معه بين مجاميع من غابوا عنا للأبد على أمل أن يرحمنا الله ويجمعنا بهم في جنات النعيم. زرنا قبر أبيه، “جدي”، الذي كان آخر عهده به قبل ٣٩ سنة تقريبًا، فإذا بِصَمْتِه وهو يتأمل تلكم البقعة الصغيرة القابعة في إحدى زوايا المقبرة يكاد يفتّق مسامعي ودموعه التي هطلت كالوابل كادت أن تُغرقه وتغرقني معه.
فالتفت إليّ وقال: سبحان الله يا محمد! زرته شابًا ولم أتصوّر بأني سأزوره جَدًّا، فقلت: الحمد لله الذي جعلك خلفًا له تدعو له كل هذه السنين. شعر بعدها بارتياح كبير وشكرني بحرارة. الزمن، أحبتي، لا يميز بين لحظة سعيدة وغير سعيدة، سيُجهز على كل تلك اللحظات بمروره عليها لا محاله. فهل ستستسلم لذلك أبدا؟!
جرّب أن تمارس إعادة تدوير الذكريات –الجميلة منها بالذات– صدّقني ستُزهر الدنيا بعينك؛ وهذا عن تجربة، لأنها من أبسط وأجمل ممارسات تطوير السعادة –إن صح التعبير– فهي ليست حكرًا لا على زمان ولا مكان ولا أشخاص بعينهم، فقط مارس ما تحب مع من تحب وفي الوقت الذي تحب وبالطريقة التي تحب ليكون الناتج.. ذكريات قابلة لإعادة التدوير تمارسها متى ما شئت وكيفما شئت… وأنت صاحب القرار.
add تابِعني remove_red_eye 1,432
كان هذا المقال مشروع خطابي في نادي التوستماسترز حول الذكريات وجعلها سببا في السعادة
link https://ziid.net/?p=23938